الفصل الثالث عشر
تمر بالمرء أشياء نادرة في حياته يشعر فيها أنه يقف على حافة الموت , و هذا واحد منها , فقد على حافة الموت و هذا واحد منها , فقد أيقنت أنني أعيش لحظاتي الأخيرة !
لكنني دهشت من الحارس يعيدني إلى مقعدي أمام الرجل العظيم , الذي خاطبني قائلا :
- أنت رجل شجاع يا كابتن هيستنغز , و نحن – معشر الشرقيين – نحترم الشجعان و نقدر الشجاعة ؛ يمكن أن أقول إنني كنت أتوقع منك فعل ما فعلت , و هذا ينقلنا إلى الفصل الثاني من المأساة : انك تضطرنا لاتخاذ مسلك آخر , فهل أنت قادر على احتمال موت امرئ يهمك كثيرا بنفس القدر من الشجاعة ؟
أصابتني رعدة قاتلة و شعرت بالرعب يعتريني فقلت بصوت مخنوق :
- ماذا تقصد ؟
- لا أظن أنك نسيت زهرة الحديقة و أنها في قبضتنا
نظرت إليه نظرة أبله شارد يفيض ألما و كآبة , و قال :
- أظن يا كابتن هيستنغز أنك الآن على استعداد لكتابة الرسالة المطلوبة . . عندي نموذج للرسالة , ما عليك إلا أن تكتب ما أمليه عليك , و اعلم أنك أمام خيارين : حياة زوجتك أو موتها
تصبب العرق من جبيني و أنا أرى نفس منساقا لإرادة هذا المجرم الكبير في حين كان يبتسم بخبث و ينطق بنعومة قاتلة :
القلم جاهز في يدك , ما عليك سوى أن تكتب , و إذا لم تفعل . . .
- و إذا لم أفعل ؟
- إذا لم تفعل فان تلك السيدة التي تحبها ستموت موتا بطيئا . إن سيدي لي شانغ ين يمتع نفسه في أوقات فراغه باختراع أساليب جديدة و بارعة في التعذيب
صحت : يا الهي ! أيها الشيطان !هذا لن يكون .. انك لن تفعل ذلك
- هل أسرد عليك بعضا من أساليبه ؟
و أخذ غير مكترث باحتجاجاتي يتدفق في حديثه بهدوء و سكون حتى سددت بيدي أذني و أنا أصيح فزعا :
- هذا يكفي
- حسنا .. خذ القلم و اكتب
- انك لا تجرؤ . .
- كلامك حماقة و أنت تدرك ذلك جيدا . خذا القلم و اكتب
- فلو فعلت فما تعدني ؟
- سوف تصبح زوجتك طليقة , سوف أرسل فورا برقية لتنفيد ذلك
- و كيف أصدقك ؟
- أقسم بقداسة أضرحة أسلافي العظام , ثم لقد تحقق هدفنا من حبسها فلا حاجة لنا بها
- و . . بوارو ؟
- سوف نبقيه لدينا لحين الفراغ من عملياتنا حيث سنطلقه بعد ذلك
- هل ستقسم على ذلك أيضا بحق أضرحة أسلافك العظماء ؟
- لقد أقسمت مرة و هذا يكفي
غاص قلبي بين أضلعي . . كيف أخون صديقي العزيز ؟
ترددت هنيهة ثم لم تلبث أن برزت أمام ناظري صورة زوجتي يعذبها هؤلاء الأشرار تعذيبا بطيئا حتى الموت . أمسكت بالقلم . . ربما أمكنني أن أوصل لبوارو تحذيرا مناسبا عن طريق صياغة بعض الكلمات في الرسالة . و ارتفع صوت الرجل الصيني بلباقة و أدب :
- اسمح لي أن أملي عليك : (( عزيزي بوارو . . أظن أنني أطارد رقم ((4)) , جاء رجل صيني بعد ظهر اليوم و أغراني برسالة كاذبة , و من حسن الحظ أدركت لعبته الصغيرة في الوقت المناسب و أفلت منه , ثم قلبت الطاولة عليه , و قررت أن أتعقبه على عاتقي حتى أشبع غروري
إنني أرسل إليك فتى شابا ذكيا يحمل إليك هذه الرسالة , أعطه نصف كروان , لقد وعدته بذلك إن هو سلمها بأمانة . إنني أراقب البيت و لا أستطيع مغادرته , سوف أنتظرك حتى السادسة , فان لم تأت أحاول الدخول إلى البيت بنفسي , إنها فرصة جيدة لا يصح أن نضيعها , و ربما لا يجدك الفتى , و لكن إن وجدك فدعه يأتي بك هنا فورا و اطمس شاربك حتى لا يعرفك من يراقب البيت
المستعجل أ . هـ ))
كنت أزداد يأسا مع كل كلمة , و شعرت أنها حيلة ماكرة ذكية بارعة . . لقد أدركت أهمية جمع المعلومات عن حياتنا بالتفصيل فقد صاغوا هذه الرسالة بالطريقة ذاتها التي كان يمكن لي أن أصوغها
الاعتراف بأن الرجل الصيني الذي زارني بعد ظهر ذلك اليوم قد سعى إلى إغوائي يذهب بالأثر المرجو لتركي الكتب الأربعة على الأرض و قطع الفحم الأربع في الموقد . الوقت أيضا حدد بذكاء : سوف يندفع بوارو بسرعة مع دليله البريء المظهر لدى استلامه الرسالة , و علمت يقينا إن إصراري على دخول البيت سيدفعه إلى القدوم بأقصى سرعة .
لقد أبدى على الدوام ارتيابا في قدراتي و يخاجله شعور بأنني أندفع إلى الخطر و أنا دون مستوى الحدث فيسرع للتدخل في الوقت الملائم !
و شعرت أني عاجز أن أفعل أي شيء ينقذ بوارو !
أخذ الرجل الرسالة فقرأها و هز رأسه بالرضى ثم أعطاها إلى أحد الخدم الصامتين فاختفى بها خلف الستارة المعلقة على الجدار
و التقط الرجل نموذج برقية سلمها إلي فقرأت فيها : (( أطلق سراح الطائر الأبيض بسرعة ))
تنهدت بارتياح و أنا أسأل سترسلها على الفور !
ابتسم وهو يهز رأسه نافيا :
- فقط عندما يصبح السيد بوارو في أيدينا ليس قبل ذلك
- و لكنك وعدت . . .
- ربما فشلت الخطة , و عند ذلك سنحتاج أن يقنعك طائرنا الأبيض ببذل مجهود أكبر
ازددت شحوبا و سيطر علي الغضب :
- يا إلهي ! . . لو أنك . . .
- كن مطمئنا . لن تفشل هذه الخطة , وسوف يقع السيد بوارو في أيدينا و أبر بقسمي , و حتى ذلك الحين أنت في ضيافتنا وسوف يهتم خدمي بتنفيذ احتياجاتك في غيابي
و تركوني في قبو تحت الأرض وحدي حيث كنت أسمع حركات الخدم و هم ينتقلون , و تنازعتني الهواجس , قلبي على زوجتي التي تعاني من قبضة هؤلاء الأشرار , و في نفسي شعور بالذنب القاتل نحو صديقي بوارو , ثم إنني أخاف هؤلاء الشياطين الذين اتخذوا الخداع دينا و لا يردعهم وازع و لا ضمير
قدموا لي الطعام و الشراب لكنني أزحته جانبا و قد أصابني الغثيان !
و ظهر الرجل الصيني مرة أخرى , كان طويلا جليلا يرفل في ثوبه الحريري الطويل , كان يوجه العمليات بحركات من يده الصفراء
أخرجوني من القبو إلى الغرفة الأولى , و كانت قريبة من الشارع يستطيع القاعد فيها مراقبة الطريق من خلال فتحات الشبابيك . .
لمحت عجوزا يلبس أسمالا بالية يشير بيده إلى المنزل فعرفت أنه من العصابة . قال صاحبنا الصيني :
- هذا حسن , فقد وقع بوارو في الفخ , انه جاء وحده مع الغلام الذي يرشده , الآن حان دورك يا كابتن , عليك أن تقوم لتظهر أمامه فيراك و تشير إليه ليدخل , فهو لن يفعل حتى يراك تصنع ذلك
صحت ثائرا :
- ماذا ؟
فقال بحزم :
- تذكر ثمن الفشل , إذا لم يدخل بوارو فان زوجتك ستموت سبعين مرة , هيا بسرعة
و نظرت بقلب يخفق و إحساس بالغثيان من خلال الشباك فعرفت صديقي الذي كان يمشي على طول الجانب المقابل من الشارع رغم أن ياقة معطفه كانت مرفوعة و اللفاع الأصفر الثخين يغطي أسفل وجهه , لكن تلك المشية هي مشية بوارو و ذاك الرأس البيضاوي هو رأس بوارو
كان بوارو قادما قطعا ليساعدني بوفاء و شهامة لا يشك بأن في الأمر حيلة , و إلى جنبه كان يمشي غلام لندني وجهه متجهم و عليه ثوب بال ٍ
توقف بوارو و كان ينظر ناحية البيت بينما كان الولد يتكلم بلهفة و يشير , و كان الوقت قد حان لألعب دوري
خرجت إلى القاعة , و بإشارة من الرجل الصيني فتح أحد الخدم مزلاج الباب , و همس عدوي :
- تذكر ثمن الفشل
خرجت عند العتبة , أشرت إلى بوارو بيدي فأسرع يقطع الشارع ناحيتي :
- ها . . إذن فكل أمورك كما يرام يا صديقي ؟ لقد بدأت أقلق , هل دخلت البيت ؟ هل البيت خالي ؟
قلت بهمس أجتهد أن أجعله مطمئنا :
- أجل , لا بد أن فيه طريقا سريا , ادخل و دعنا نلتمسه
عدت إلى درجات العتبة , و هم بوارو ليتبعني ببراءة . . ثم بدا أن شيئا ما يدور في رأسي , إنني أحاكي دور يهوذا الاسخريوطي الذي وشى بالسيد المسيح , و فجأة صرخت :
- ارجع يا بوارو ! ارجع من أجل حياتك , انه فخ , لا تهتم بي , اهرب في الحال !
في اللحظة التي تكلمت أو صرخت محذرا أمسكت بي يد كأنها كماشة , و قفز أحد الخدم الصينيين أمامي لكي يمسك بوارو
و قفز بوارو إلى الخلف و رفع يده , ثم فجأة تصاعد دخان كثيف حولي يخنقني , يقتلني , أحسست أني أنهار . . كان هذا هو الموت
ثم عدت إلى وعيي و أنا أتألم , رأسي يدور , رأيت أول ما رأيت وجه بوارو يقعد مقابلي يراقبني بوجه قلق , صرخ فرحا حين رآني أنظر إليه :
- آه لقد عاد وعيك , كل شيء جيد يا صديقي المسكين !
- أين أنا ؟
- أين ؟ في بيتنا
نظرت حولي . . أجل , هذا المحيط أعرفه , و في الموقد كانت قطع الفحم الأربع التي نثرتها
- نعم , لقد أحسنت صنعا , كانت هذه الفكرة ممتازة هي و كرة الكتب , لو أنهم قالوا لي : (( إن صديقك هيستنغز غير واسع العقل , أليس كذلك ؟ )) فسوف أقول : كلا , بل أنتم مخطئون
- إذن فقد فهمتها ؟
- أجل , لقد أخذت حذري و أنفقت الوقت اللازم لكي أحكم خطتي , نقلك الأربعة الكبار بالقوة , لماذا ؟ ليس لأنهم يخافونك و يريدون أن يبعدوك عن الطريق , كلا , بل جعلوك طعما ليصطادوا به بوارو العظيم . . كنت أنتظر هذا منذ زمن فأعددت له
و لما وصل الصغير البريء رسولا منهم فهمت كل شيء و أسرعت معه , و من حسن الحظ أن سمحوا لك أن تقف على العتبة , فقد كنت أخشى أن أفشل في العثور عليك بعد أن أتخلص منهم
قلت بوهن :
- هل قلت : تتخلص منهم ؟ وحدك ؟
- لا شيء من أمرهم يحتاج ذكاءً , إذا استعد المرء من قبل فكل شيء عندئذ يهون , ذلك شعار الكشافة . . انهم يقولون : (( كن مستعدا )) أليس كذلك ؟
منذ وقت غير بعيد قدمت خدمة لكيمياوي شهير له عمل في الغازات السامة أثناء الحرب , فابتدع لي قنبلة صغيرة بسيطة يسهل حملها و ما علي إلا أن أرميها فتنفجر , يتصاعد منها دخان ثم يكون فقد الوعي . .
و في الحال صفرت قليلا فأسرع بعض زملاء جاب – و كانوا يراقبون البيت قبل أن يصل الولد إلى بيتنا و تتبعوا طريقنا حتى لا يم هاوس – حيث تولوا الأمر برمته !
- لكن لماذا لم تفقد أنت وعيك ؟
- صاحبنا رقم ((4)) الذي ألف تلك الرسالة المحبوكة ذكر ملاحظة ساخرة عن شاربي فأخفيته – و معه كمامة التنفس – تحت وشاحي الأصفر
صحت بلهفة :
- إنني أتذكر . .
و مع كلمة أتذكر عادني الرعب و الخوف على سندريلا , تراجعت و أنا أئن ! لا بد أني فقدت وعيي مرة أخرى بعض الوقت , صحوت فإذا بوارو يدفع لي كأس الليمون . .
- ماذا هناك يا صديقي ؟ ماذا هناك ؟ قل لي
أخبرته بالأمر كلمة كلمة و أنا أرتعش , صاح بوارو :
- يا صديقي ! لقد عانيت كثيرا لكنني لم أكن أعرف شيئا من هذا فاطمئن , كل شيء على ما يرام
- هل ستجدها ؟ لكنها في أمريكا الجنوبية و حين نصلها تكون قد ماتت منذ زمن طويل , و الله وحده يعلم كيف ستموت
- لا , لا , انك لم تفهم , بل هي آمنة و في صحة حسنة , بل لم تقع في أيديهم بتاتا . .
- لكن البرقية من برونسين ؟
- لا , أنت لم تستلم منه برقية , ربما استلمت برقية من أمريكا الجنوبية باسم برونسين , هذا مختلف , قل لي : ألم يظهر لك أن منظمة مثل هذه ذات فروع في كل أنحاء العالم يمكن أن تضغط علينا بواسطة فتاة صغيرة مثل سندريلا التي تحبها كثيرا ؟
- لا , أبدا
- حسنا , أما أنا فقد عرفت ذلك و لم أقل لك شيئا لأنني لم أرد أن أزعجك من غير ضرورة , لكني اتخذت إجراءاتي الخاصة
إن رسائل زوجتك تبدو كأنها كتبت كلها من المزرعة , لكنها كانت في مكان آمن دبرته أنا منذ ثلاثة شهور . .
نظرت إليه طويلا . .
- حقا ؟
- أجل , إنما عذبوك بكذبة !
أدرت رأسي , وضع بوارو يده على كتفي , كان في صوته شيء ما لم أسمعه أبدا من قبل :
- أنت لا تحب أن أعانقك . . سوف أتصرف على الطريقة الإنكليزية , لن أقول شيئا أبدا , لكن دعني أقل : ما أسعد رجلا عنده صديق مثل صديقي !
الفصل الرابع عشر
خاب ظني كثيرا من نتيجة هجوم بوارو بالقنبلة على البيت في الحي الصيني , فقد هرب رأس العصابة !
عندما هرع رجال جاب لما صفر بوارو وجدوا أربعة رجال صينيين في القاعة فقدوا وعيهم , لكن الذي هددني بالموت لم يكن فيهم , فتذكرت حينئذ أنني حين أجبرت على الخروج إلى عتبة البيت بقي هذا الرجل في المؤخرة , و بذلك ظل خارج منطقة الخطر الذي أحدثته القنبلة ففر من مخرج من المخارج الكثيرة التي عرفناها فيما بعد
لم نعلم من الأربعة الذين وقعوا في قبضتنا شيئا , و التحقيق الواسع الذي أجرته الشرطة لم يكشف صلة لأحدهم بالأربعة الكبار
لقد كانوا فقراء من الحي , و قد ادعوا جهلا تاما باسم لي شانغ ين , إنما استأجرهم رجل صيني للخدمة في البيت , و لم يكونوا يعلمون شيئا من شؤونه الخاصة !
في اليوم التالي تعافيت تماما من أثر القنبلة إلا من صداع خفيف , فنزلنا إلى الحي الصيني و تفحصنا البيت الذي استُنقذت ُ منه . .
كان المبنى يتألف من بيتين مصعدين متصلين معا بممر من تحت الأرض , كانا مهجورين لا فرش فيهما , و قد غطيت الشبابيك المكسورة فيهما بستائر بالية . .
اطلع جاب على الأقبية و كشف المدخل المؤدي إلى القبو الذي لبثت فيه نصف ساعة عسيرة , و أكد التحقيق أنها غرفة جهزت خصيصا من أجلي في الليلة السابقة
الحرير الذي كسا الحيطان و الأريكة و السجاد الممدود على الأرض كان متقنا . قد لا أكون من الخبراء العارفين في الفن الصيني إلا قليلا , و لكني أملك أن أجزم أن كل قطعة في تلك الغرفة كانت بالغة القيمة عظيمة الشأن !
أجرينا تفتيشا دقيقا للبيت , و كنت أرجو أن نجد وثائق هامة , ربما قائمة بأسماء عملاء الأربعة الكبار , أو رسائل في خططهم , لكننا لم نجد شيئا إلا رسائل كان الرجل الصيني يرجع إليها عندما كان يملي علي رسالتي إلى بوارو , كانت تتألف من سجل كبير عن كل عمل عملناه و عن شخصيتنا و مكامن ضعفنا !
كان بوارو مبتهجا من هذا جدا , كأنه طفل , أما أنا فلم أحسب أنها ذات لا سيما أن الرجل الذي جمعها – كائنا من كان – قد أخطأ في بعض آرائه بصورة مضحكة , و قد أوضحت ذلك لصديقي و نحن راجعان إلى بيتنا , قلت :
- بوارو , أنت تعرف الآن ماذا يظننا خصمنا ؟ يبدو أنه بالغ كثيرا في تقدير قوتك العقلية و استخف بي ! لا أدري كيف يمكن أن تنفعنا هذه المعرفة ؟
ضحك بوارو بطريقة مزعجة :
- أنت لم تفهم يا هيستنغز , إننا نستطيع الآن أن نعد أنفسنا لمواجهة أساليبهم في الهجوم حيث أدركنا بعض أخطائنا , مثلا يا صديقي : نعلم أنك يجب أن تفكر قبل أن تعمل , فإذا رأيت مرة أخرى فتاة ذات شعر أحمر في مشكلة فيجب أن تنظر إليها بارتياب , أليس كذلك ؟
كان في رسائلهم إشارات سخيفة عن تهوري المحتمل , و أشاروا أنني كنت سريع التأثر بالفتيات ذوات الشعر الأحمر , و كان فيها إشارة تعني بوارو فقدرت على الرد عليه :
- و ماذا عنك ؟ هل ستعالج (( غرورك المفرط )) و (( أناقتك الشديدة )) ؟
لم يكن بوارو مسرورا من ردي السريع
- بلا ريب يا هيستنغز انهم يخدعون أنفسهم في بعض الأمور , و سيعلمون ذلك في الوقت المناسب , و في غضون ذلك علمنا بعض الأشياء و عرفنا أنه يلزمنا الاستعداد
كانت الكلمة الأخيرة هذه البديهية المفضلة لديه منذ عهد قريب , و قد بدأت أكره معناها , و ما زال قائلا :
- هيستنغز , إننا نعرف شيئا ما و هذا فيه خير , لكن ينبغي أن نعرف أكثر
- في أي اتجاه ؟
استرخى بوارو في كرسيه و عدل علبة الكبريت التي ألقيتها على الطاولة بإهمال , و أحسست أنه يستعد لإلقاء خطبة طويلة :
- يجب يا هيستنغز أن نواجه أربعة أعداء , أربعة أشخاص مختلفين , رقم ((1)) عرفناه و لم نعامله , بالمناسبة , لقد بدأت يا هيستنغز أفهمه فهما حسنا : عقل شرقي حاذق , إن كل ما لقيناه كان من تدبير عقل لي شانغ ين
رقم ((2)) و رقم ((3)) لهما نفوذ و مرتبة عليا , و هما لذلك في حصانة من هجومنا , غير أن هذا سلاح ذو حدين: انهما مكشوفان فينبغي أن يقدرا حركاتهما بعناية , و هما – مع ذلك – قادران على النجاح لما لهما من شهرة و منصب . أما رقم ((4)) . . .
تغير صوت بوارو قليلا و تابع :
- أما رقم ((4)) فان نجاحه في تخفيه . . من هو ؟ لا أحد يعرف ! ما هو شكله ؟ لا أحد يعرف ! كم مرة رأيناه ؟ خمسا , أليس كذلك ؟ فهل يستطيع أحدنا أن يجزم بأنه سيعرفه إذا رآه ؟
تذكرت الرجال الخمسة المختلفين : حارس المصحة القوي الجسم , جيمس الرجل الذي كان يلبس المعطف المزرر في باريس , الخادم , الطبيب الشاب الباسم في قضية الياسمين الأصفر , و البروفيسور الروسي . . لم يشبه أي واحد من هؤلاء الخمسة الآخر , فقلت :
- لا , لا دليل عندنا بتاتا !
ابتسم بوارو :
- أرجوك لا تدع لهذا اليأس الشديد سبيلا إليك , إننا علمنا شيئا أو شيئين . . علمنا أنه رجل متوسط الطول أشقر الشعر قليلا , لو كان رجلا طويلا أسمر ما استطاع أن يخدعنا في هيئة الطبيب الأشقر القصير , و لابد أن يكون أنفه صغيرا مستقيما , لأن الأنف الكبير لا يصير صغيرا , ثم لا بد أن يكون رجلا شابا ليس أكبر من الخامسة و الثلاثين , إذن فقد وصلنا إلى شيئا ما : رجل بين الثلاثين و الخامسة و الثلاثين , متوسط الطول , لونه طبيعي , خبير في ( الماكياج ) , ليس لديه أسنان طبيعية
- ماذا ؟
- أجل يا هيستنغز , الحارس كانت أسنانه مكسورة صفراء , و في باريس كانت أسنانه بيضاء مستوية , و حين كان طبيبا كانت أسنانه بارزة قليلا , و لما كان سافرونوف كانت أنيابه طويلة , لا شيء يغير الوجه مثل طقم مختلف من الأسنان , هل ترى أين يقودنا كل هذا ؟
- لا أدري
- يقولون : (( حرفة الرجل مكتوبة في وجهه )) . .
- مجرم ؟
- خبير في فن الماكياج أو أنه كان ممثلا في يوم ما
- ممثل ؟
- أجل , فنان بارع , الممثلون صنفان : صنف يطيعه دوره و صنف يطيع دوره , صنف يؤثر في الدور و صنف يتأثر به و يقلب شخصيته حسب دوره . يجب أن نبحث عن رقم ((4)) بين ذلك الصنف السابق , انه فنان بارع يلبس الدور الذي يمثله بإتقان
- إذن أنت تظن أنك تقدر أن تتبعه في المسرح ؟ وددت لو أن هذه الفكرة جاءتك من قبل , لقد ضيعنا الكثير من الوقت
- كلا يا صديقي , لم نضيع وقتنا , عملائي مشغولون بالبحث منذ بضعة شهور , جوزيف ايرونز واحد منهم , هل تذكره ؟ لقد جمعوا قائمة بالرجال الذين تنطبق عليهم الأوصاف المطلوبة : شباب في الثلاثين : ذوو موهبة في التمثيل , تركوا المسرح في السنين الثلاث الأخيرة بصورة قاطعة
فقلت بتشوق :
- حسنا؟
- كانت القائمة طويلة , منذ زمن و نحن مشغولون بالحذف و أخيرا أخرجنا منها أربعة أسماء . . . هاهي يا صديقي
أعطاني قصاصة من الورق قرأتها جهرة :
إيرنست لوتريل : ابن كاهن في الشمال , غريب الأطوار , طرد من مدرسته , ذهب ليعمل في المسرح و هو في الثالثة و العشرين , مدمن مخدرات , يفترض أنه سافر إلى أستراليا قبل أربع سنين و لم نستطع متابعته منذ أن غادر إنكلترا , عمره الآن اثنان و ثلاثون عاما , طوله 5 أقدام و 10 بوصات , حليق , شعره بني , أنفه مستقيم , البشرة شقراء , العينان رماديتان
جون سانت مور : اسم منحول , الاسم الصريح مجهول , كأنه من أصل لندني , عمل في المسرح منذ أن كان طفلا حيث كان يؤدي أدواره في مسرح المنوعات , انقطعت أخباره منذ ثلاث سنوات , في الثالثة و الثلاثين , طوله 5 أقدام و 10 بوصات , نحيف , عيناه زرقاوان , لونه أشقر
أوستين لي : اسم منحول , اسمه الصريح أوستين فولي من أسرة طيبة , كان يحب شكلا واحدا من التمثيل , و كون لنفسه شخصية متميزة , له سجل حربي متألق , مثل في مسرحيات عدة , كان يتحمس لتثميل قصص الجريمة , أصابه انهيار عصبي شديد من حادث سيارة قبل ثلاث سنوات و نصف و لم يظهر على المسرح بعدها , لا أثر له يدل على مكانه الآن , عمره 35 سنة , طوله 5 أقدام و 9 بوصات و نصف , بشرته شقراء و شعره بني و عيناه زرقاوان
كلود داريل : يفترض أنه اسمه الصريح , أصله مجهول , مثل في مسرح المنوعات و مسرح الذخائر , ليس له أصحاب مقربون , كان في الصين عام 1919 , عاد عن طريق أمريكا , مثل أدوارا قليلة في نيويورك , في إحدى الليالي لم يظهر على خشبة المسرح و لم يسمع عنه شيء بعدها , تقول شرطة نيويورك بأن اختفاءه غامض جدا , عمره 33 سنة , شعره بني , بشرته شقراء , عيناه رماديتان , طوله 5 أقدام و 10 بوصات و نصف
قلت و أنا أضع الورقة :
- هذا مثير مدهش ! اذن فهذه نتيجة التحقيق الذي دام شهورا ؟ و هذه الأسماء الأربعة , أي منها تشك فيه ؟
أشار بوارو بيده بإيماءة نصيحة :
- يا صديقي . . إن هذا سؤال مبكر في الوقت الراهن . لا بد أنك لاحظت أن كلود داريل كان في أمريكا و الصين , و هي حقيقة ذات دلالة , ربما , و لكن لا يجدر أن نسمح لأنفسنا بالتحيز لهذه النقطة تحيزا مفرطا , ربما كان ذلك مجرد صدفة
- و ما هي الخطوات التالية ؟
- الأمور تسير بنظام , ستظهر كل يوم إعلانات مكتوبة بحذر , أصدقاء و أقرباء أحد هؤلاء الأربعة سيتصل بمحامي في مكتبه , حتى اليوم يمكن أن يكون . . . أوه . . انه التلفون يرن , ربما يكون الرقم خطأ كالعادة و سوف يعتذرون عن الإزعاج , و ربما يكون شيء قد ظهر
عبرت الغرفة و رفعت السماعة :
- نعم , نعم , هنا بيت السيد بوارو , أنا كابتن هيستنغز , ها ! السيد ماكنيل ؟ نعم , الآن أخبره و نأتي حالا
رددت السماعة و رجعت إلى بوارو :
- بوارو , محاميك السيد ماكنيل اتصل : امرأة صديقة لكلود داريل ! الآنسة فلوسي مونرو ! ماكنيل يريد أن تذهب إليه
صاح بوارو :
- فورا
و اختفى في غرفة نومه ليعود و على رأسه القبعة . و في الحال ركبنا سيارة حملتنا إلى وجهتنا , و دخلنا مكتب السيد ماكنيل الخاص
على المقعد المواجه للمحامي كانت امرأة دميمة تجاوزت سن الشباب , شعرها أصفر مقزز فيه خصلات مجعدة فوق كل أذن , جفناها مصبوغان بالسواد , لكنها لم تنس على كل حال وضع الحمرة و أحمر الشفاه
ماكنيل :
- هاهو السيد بوارو , سيد بوارو , هاهي الآنسة مونرو التي تلطفت كثيرا بنا و استجابت لنا
- ها . . ذلك لطف كبير !
ثم تقدم بوارو و قال بحماس غير آبه بمشاعر السيد ماكنيل :
- إن الآنسة تزهر كالوردة في هذا المكتب الممل العتيق !
احمر وجه الآنسة مونرو خجلا و ابتسمت ابتسامة متكلفة و هي تعلق قائلة :
- لا تمزح يا سيد بوارو , إني أعرفكم أيها الفرنسيون
- يا آنسة , نحن لسنا كالإنكليز بلهاء أمام الجمال , و أنا لست فرنسيا , أنا بلجيكي
- لقد ذهبت إلى أوستند بنفسي
- إذن فأخبرينا عن السيد كلود داريل
- عرفت السيد كلود داريل يوما ما , و قد رأيت إعلانك , و حيث إنني لا أعمل الآن في المحل , قلت لنفسي : انهم يريدون أن يعرفوا عن المسكين العجوز كلودي , فلعل وراءه ثروة لم يعرفوا وارثها , يجب أن أذهب في الحال
نهض السيد ماكنيل :
- حسنا يا سيد بوارو هل أترككم وحدكم ؟
- أنت لطيف جدا , لكن ساعة الغذاء تقترب و قد خطرت ببالي فكرة صغيرة , ربما تريد الآنسة أن تأتي معي لتناول الغذاء
تلألأت عيناها , و خطرت ببالي أنها كانت في ضائقة مالية و أن وجبة مشبعة لا ترفض
و خرجنا جميعنا في سيارة أجرة نحو أحد مطاعم لندن الفاخرة , و عندما وصلنا طلب بوارو غذاء لذيذا
بدأت تأكل وجبتها بشهية فيما طرق بوارو بحذر موضوعه المهم :
- مسكين السيد داريل , انني آسف لأنه ليس معنا الآن
تنهدت الآنسة مونرو :
- صدقت , الحق أنه ولد مسكين ! ترى ماذا جرى له ؟
- قد مضى وقت طويل على رؤيتك له , أليس كذلك ؟
- آه ! منذ سنين ! لم أره منذ الحرب . . كلودي كان ولدا مرحا لم يتحدث عن نفسه أبدا , لكن كل شيء سيبين اذا كان هو وريثا مفقودا . . و هل هو إرث شرعي يا سيد بوارو ؟
- للأسف مجرد تركة , و المسألة هي في تحديد الهوية , لذلك يلزمنا البحث عن شخص كان يعرفه جيدا , أنت كنت تعرفينه جيدا , أليس كذلك يا آنسة ؟
- لا بأس يا سيد بوارو , فأنت رجل لطيف تحسن اختيار طعام السيدات بأفضل من صغار هذه الأيام السفهاء , و أظن كونك فرنسيا غير مخيف . . آه ! أنتم – أشارت بأصبعها نحوه – أيها الفرنسيون أشرار , أشرار
عارضها بوارو متلطفا :
- لا , لا يا آنسة , لا تقولي ذلك . الآن هلا وصفت لي السيد داريل هذا ؟
- ليس بالطويل و لا بالقصير , أنيق , عيناه رماديتان فيهما زرقة , شعره أشقر , فنان و أي فنان ! لم أر مثله في الناس , و لو لا الغيرة لأصبح رجلا مشهورا , آه يا سيد بوارو , كم نعاني نحن الفنانين من الغيرة و الحسد , أذكر مرة في مانشستر . .
- هذا كلام جميل يا آنسة في أمر السيد داريل , النساء لا ينسين شيئا و يلاحظن ما يفوت الرجال , لقد عرفت امرأة عرفت رجلا من بين اثني عشر رجلا , هل تدرين كيف ؟ لقد لاحظت سمة مميزة تظهر على أنفه إذا غضب ! هل في الرجال من يلاحظ شيئا كهذا ؟
صرخت مونرو :
- ألا نستيطع ذلك ؟ نعم , نحن نلاحظه . . أتذكر كلودي , الآن بدأت أفكر بذلك : كان كثير العبث بالخبز الذي على الطاولة , كان يضع قطعة صغيرة بين أصابعه و يفركها ليأكل لب الرغيف , قلد رأيته يفعل ذلك مئة مرة , و أستطيع أن أعرفه من هذه العادة التي فيه
- و هل تحدثت معه عن عادته هذه يا آنسة ؟
- لا؛ فأنت تعرف طبع الرجال : لا يحبون أن تنتقدهم لا سيما ان بدا لهم أنك تنهاهم عن فعلها , لم أقل كلمة واحدة البتة , لكني كنت أضحك في سري كثيرا , انه لم يكن يشعر بفعله
هز بوارو رأسه موافقا , و رأيت يده ترتعش قليلا حين مدها إلى صحنه , قال :
- و خط اليد وسيلة لتحديد الهوية , لا شك أن عندك رسالة كتبها السيد داريل . .
هزت رأسها أسفا :
- لم يكتب لي سطرا في حياته أبدا
- هذا مؤسف
قالت مونرو فجأة :
- لكن عندي صورة . .
- عندك صورة ؟
قفز بوارو من كرسيه مذهولا :
- صورة قديمة , حين كان عمره ثمانية أعوام . .
- لا ضير ان كانت عتيقة أو باهتة , هلا أعطيتني إياها يا آنسة ؟
- أجل
- ربما تأذنين أن أستنسخ منها , إن ذلك لا يأخذ وقتا
- أجل إذا كنت تحب ذلك
نهضت مونرو , قالت بمكر :
- يجب أن أنصرف , أسعدني لقاؤك أنت و صاحبك يا سيد بوارو . .
- و الصورة ؟
- سأبحث عنها هذه الليلة , أظن أنني أعلم مكانها , سوف أرسلها لك فورا
- ألف شكر يا آنسة , أنت لطيفة جدا , أرجو أن نأكل الغذاء معا في وقت قريب !
- أنا على استعداد متى شئت . .
- لكني أجهل عنوانك
و بكبرياء شامخة سحبت مونرو بطاقة من حقيبتها و أعطتها له , كانت بطاقة وسخة بعض الشيء , و كان العنوان المطبوع مشطوبا كتب فوقه عنوان آخر بقلم رصاص . ثم مع انحناء ودعنا المرأة و ذهبنا , و سألت أنا بوارو :
- هل تظن حقا أن هذه الصورة خطيرة ؟
- نعم يا صديقي . . (( الكاميرا لا تكذب )) , نستطيع أن نكبر الصورة و نضبط النقاط البارزة , و نعلم كثيرا من التفاصيل : الأذن التي لا يستطيع أن يصفها لك أحد , حقا , ماأعظم هذه الفرصة التي جاءت لنا , من أجل هذا اتخذت احتياطاتي
عبر نحو الهاتف و طلب رقم وكالة التحري الخاصة , أوامره كانت واضحة و حاسمة : اثنان من الرجال يذهبان الى عنوان ذكره و يراقبان مونرو , يتابعانها حيث تروح و تجيء , و يؤمنان لها الحماية اللازمة
رد بوارو السماعة و عاد إلي
- و هل هذا لازم يا بوارو ؟
- ربما , لا ريب أنني أنا و أنت مراقبان , و سوف يعرفون من كان يأكل معنا غذاء اليوم , ربما أحس رقم ((4)) بالخطر
مضت عشرون دقيقة , رن الهاتف , و عندما أجبت عليه سمعت على الطرف الآخر صوتا جافا :
- أهذا هو السيد بوارو ؟ هنا مستشفى سانت جيمس , قبل عشر دقائق أحضرت لنا امرأة شابة , الآنسة فلوسي مونرو . . حادث سيارة . . إنها تسأل عن السيد بوارو بإلحاح , يجب أن يأتي حالا , فربما لا تعيش طويلا
أخبرت بوارو , أصبح وجهه شاحبا :
- هيا يا هيستنغز , هيا ننطلق كالبرق
و في غضون عشر دقائق وصلنا إلى المستشفى , سألنا عن مونرو , صعدنا إلى جناح الحوادث لكن الممرضة قابلتنا عند الباب . . قرأ بوارو الخبر في وجهها !
- ماتت ؟
- قبل ست دقائق
وقف بوارو مصعوقا و بدأت الممرضة تكلمه بلطف و هي لا تدري حقيقة حزنه :
- إنها لم تعان ألما , ظلت فاقدة للوعي , دهمتها سيارة , و لم يتوقف السائق . . آمل أن أحدا سجل رقم سيارته
قال بوارو همسا : الأحداث تتسارع ضدنا !
- تود أن تراها ؟
تقدمتنا الممرضة و تبعناها . . المسكينة فلوسي مونرو : ممددة و الحمرة على شفتيها و شعرها المصبوغ ! إنها ترقد بسلام و على وجهها بسمة ! . . همس بوارو :
- أجل . . الأحداث تجري ضدنا
و فجأة رفع رأسه كأن فكرة ما خطرت له و قال : لقد اقتربت نهاية هؤلاء الأشرار ! أقسم لك و أنا أقف هنا جنب جثة هذه المسكينة أني لن أرحمهم عندما يحين الوقت !
- ماذا تقصد ؟
لم يجب بوارو بشيء , بل التفت إلى الممرضة و هو يطلب بلهفة بعض المعلومات , و أخذ أخيرا أخيرا قائمة بالأغراض التي وجدت في حقيبتها . صاح بوارو صيحة مكبوتة و هو يقرأها . .
- هل ترى يا هيستنغز ؟ هل ترى ؟ لا ذكر لمفتاح المزلاج , و لا شك أن معها مفتاحا
لا , لقد صرعت بدم بارد و أول رجل انحنى فوقها أخذ المفتاح من حقيبتها , لكن الوقت ما زال معنا , فقد لا يجد ما يريده في الحال
و حملتنا سيارة أخرى إلى عنوانها : بيوت قذرة متجاورة في حي قديم !
مضى وقت طويل حتى أذن لنا أن ندخل بيتها , لكننا كنا قانعين أن أحدا لا يستطيع أن يغادر و نحن نرقب البيت من الخارج
أخيرا دخلنا , و كان واضحا أن شخصا قد دخل قبلنا هنا ؛ لأن محتوى الأدراج و الخزائن كله مبعثر منثور , و الأقفال مكسورة و الطاولات مقلوبة , كانت عجلة الباحث قبلنا عنيفة جدا
بدأ بوارو البحث في الحطام . . فجأة , وقف منتصبا يصرخ و يمسك إطارا عتيقا لصورة فوتوغرافية . . أما الصورة نفسها فقد اختفت ! قلبه ببطء . . كان على ظهر الإطار لاصق مدور صغير , ملصق يبين السعر , قلت له :
- ثمنه أربع شلنات
- أبصر جيدا يا عزيزي هيستنغز , انه لاصق جديد , ألصقه الرجل الذي نزع الصورة و الذي سبقنا هنا , كان يعلم أننا سنحضر , لذلك ترك هذه لنا . . انه رقم ((4)) . . كلود داريل بالتأكيد !
تمر بالمرء أشياء نادرة في حياته يشعر فيها أنه يقف على حافة الموت , و هذا واحد منها , فقد على حافة الموت و هذا واحد منها , فقد أيقنت أنني أعيش لحظاتي الأخيرة !
لكنني دهشت من الحارس يعيدني إلى مقعدي أمام الرجل العظيم , الذي خاطبني قائلا :
- أنت رجل شجاع يا كابتن هيستنغز , و نحن – معشر الشرقيين – نحترم الشجعان و نقدر الشجاعة ؛ يمكن أن أقول إنني كنت أتوقع منك فعل ما فعلت , و هذا ينقلنا إلى الفصل الثاني من المأساة : انك تضطرنا لاتخاذ مسلك آخر , فهل أنت قادر على احتمال موت امرئ يهمك كثيرا بنفس القدر من الشجاعة ؟
أصابتني رعدة قاتلة و شعرت بالرعب يعتريني فقلت بصوت مخنوق :
- ماذا تقصد ؟
- لا أظن أنك نسيت زهرة الحديقة و أنها في قبضتنا
نظرت إليه نظرة أبله شارد يفيض ألما و كآبة , و قال :
- أظن يا كابتن هيستنغز أنك الآن على استعداد لكتابة الرسالة المطلوبة . . عندي نموذج للرسالة , ما عليك إلا أن تكتب ما أمليه عليك , و اعلم أنك أمام خيارين : حياة زوجتك أو موتها
تصبب العرق من جبيني و أنا أرى نفس منساقا لإرادة هذا المجرم الكبير في حين كان يبتسم بخبث و ينطق بنعومة قاتلة :
القلم جاهز في يدك , ما عليك سوى أن تكتب , و إذا لم تفعل . . .
- و إذا لم أفعل ؟
- إذا لم تفعل فان تلك السيدة التي تحبها ستموت موتا بطيئا . إن سيدي لي شانغ ين يمتع نفسه في أوقات فراغه باختراع أساليب جديدة و بارعة في التعذيب
صحت : يا الهي ! أيها الشيطان !هذا لن يكون .. انك لن تفعل ذلك
- هل أسرد عليك بعضا من أساليبه ؟
و أخذ غير مكترث باحتجاجاتي يتدفق في حديثه بهدوء و سكون حتى سددت بيدي أذني و أنا أصيح فزعا :
- هذا يكفي
- حسنا .. خذ القلم و اكتب
- انك لا تجرؤ . .
- كلامك حماقة و أنت تدرك ذلك جيدا . خذا القلم و اكتب
- فلو فعلت فما تعدني ؟
- سوف تصبح زوجتك طليقة , سوف أرسل فورا برقية لتنفيد ذلك
- و كيف أصدقك ؟
- أقسم بقداسة أضرحة أسلافي العظام , ثم لقد تحقق هدفنا من حبسها فلا حاجة لنا بها
- و . . بوارو ؟
- سوف نبقيه لدينا لحين الفراغ من عملياتنا حيث سنطلقه بعد ذلك
- هل ستقسم على ذلك أيضا بحق أضرحة أسلافك العظماء ؟
- لقد أقسمت مرة و هذا يكفي
غاص قلبي بين أضلعي . . كيف أخون صديقي العزيز ؟
ترددت هنيهة ثم لم تلبث أن برزت أمام ناظري صورة زوجتي يعذبها هؤلاء الأشرار تعذيبا بطيئا حتى الموت . أمسكت بالقلم . . ربما أمكنني أن أوصل لبوارو تحذيرا مناسبا عن طريق صياغة بعض الكلمات في الرسالة . و ارتفع صوت الرجل الصيني بلباقة و أدب :
- اسمح لي أن أملي عليك : (( عزيزي بوارو . . أظن أنني أطارد رقم ((4)) , جاء رجل صيني بعد ظهر اليوم و أغراني برسالة كاذبة , و من حسن الحظ أدركت لعبته الصغيرة في الوقت المناسب و أفلت منه , ثم قلبت الطاولة عليه , و قررت أن أتعقبه على عاتقي حتى أشبع غروري
إنني أرسل إليك فتى شابا ذكيا يحمل إليك هذه الرسالة , أعطه نصف كروان , لقد وعدته بذلك إن هو سلمها بأمانة . إنني أراقب البيت و لا أستطيع مغادرته , سوف أنتظرك حتى السادسة , فان لم تأت أحاول الدخول إلى البيت بنفسي , إنها فرصة جيدة لا يصح أن نضيعها , و ربما لا يجدك الفتى , و لكن إن وجدك فدعه يأتي بك هنا فورا و اطمس شاربك حتى لا يعرفك من يراقب البيت
المستعجل أ . هـ ))
كنت أزداد يأسا مع كل كلمة , و شعرت أنها حيلة ماكرة ذكية بارعة . . لقد أدركت أهمية جمع المعلومات عن حياتنا بالتفصيل فقد صاغوا هذه الرسالة بالطريقة ذاتها التي كان يمكن لي أن أصوغها
الاعتراف بأن الرجل الصيني الذي زارني بعد ظهر ذلك اليوم قد سعى إلى إغوائي يذهب بالأثر المرجو لتركي الكتب الأربعة على الأرض و قطع الفحم الأربع في الموقد . الوقت أيضا حدد بذكاء : سوف يندفع بوارو بسرعة مع دليله البريء المظهر لدى استلامه الرسالة , و علمت يقينا إن إصراري على دخول البيت سيدفعه إلى القدوم بأقصى سرعة .
لقد أبدى على الدوام ارتيابا في قدراتي و يخاجله شعور بأنني أندفع إلى الخطر و أنا دون مستوى الحدث فيسرع للتدخل في الوقت الملائم !
و شعرت أني عاجز أن أفعل أي شيء ينقذ بوارو !
أخذ الرجل الرسالة فقرأها و هز رأسه بالرضى ثم أعطاها إلى أحد الخدم الصامتين فاختفى بها خلف الستارة المعلقة على الجدار
و التقط الرجل نموذج برقية سلمها إلي فقرأت فيها : (( أطلق سراح الطائر الأبيض بسرعة ))
تنهدت بارتياح و أنا أسأل سترسلها على الفور !
ابتسم وهو يهز رأسه نافيا :
- فقط عندما يصبح السيد بوارو في أيدينا ليس قبل ذلك
- و لكنك وعدت . . .
- ربما فشلت الخطة , و عند ذلك سنحتاج أن يقنعك طائرنا الأبيض ببذل مجهود أكبر
ازددت شحوبا و سيطر علي الغضب :
- يا إلهي ! . . لو أنك . . .
- كن مطمئنا . لن تفشل هذه الخطة , وسوف يقع السيد بوارو في أيدينا و أبر بقسمي , و حتى ذلك الحين أنت في ضيافتنا وسوف يهتم خدمي بتنفيذ احتياجاتك في غيابي
و تركوني في قبو تحت الأرض وحدي حيث كنت أسمع حركات الخدم و هم ينتقلون , و تنازعتني الهواجس , قلبي على زوجتي التي تعاني من قبضة هؤلاء الأشرار , و في نفسي شعور بالذنب القاتل نحو صديقي بوارو , ثم إنني أخاف هؤلاء الشياطين الذين اتخذوا الخداع دينا و لا يردعهم وازع و لا ضمير
قدموا لي الطعام و الشراب لكنني أزحته جانبا و قد أصابني الغثيان !
و ظهر الرجل الصيني مرة أخرى , كان طويلا جليلا يرفل في ثوبه الحريري الطويل , كان يوجه العمليات بحركات من يده الصفراء
أخرجوني من القبو إلى الغرفة الأولى , و كانت قريبة من الشارع يستطيع القاعد فيها مراقبة الطريق من خلال فتحات الشبابيك . .
لمحت عجوزا يلبس أسمالا بالية يشير بيده إلى المنزل فعرفت أنه من العصابة . قال صاحبنا الصيني :
- هذا حسن , فقد وقع بوارو في الفخ , انه جاء وحده مع الغلام الذي يرشده , الآن حان دورك يا كابتن , عليك أن تقوم لتظهر أمامه فيراك و تشير إليه ليدخل , فهو لن يفعل حتى يراك تصنع ذلك
صحت ثائرا :
- ماذا ؟
فقال بحزم :
- تذكر ثمن الفشل , إذا لم يدخل بوارو فان زوجتك ستموت سبعين مرة , هيا بسرعة
و نظرت بقلب يخفق و إحساس بالغثيان من خلال الشباك فعرفت صديقي الذي كان يمشي على طول الجانب المقابل من الشارع رغم أن ياقة معطفه كانت مرفوعة و اللفاع الأصفر الثخين يغطي أسفل وجهه , لكن تلك المشية هي مشية بوارو و ذاك الرأس البيضاوي هو رأس بوارو
كان بوارو قادما قطعا ليساعدني بوفاء و شهامة لا يشك بأن في الأمر حيلة , و إلى جنبه كان يمشي غلام لندني وجهه متجهم و عليه ثوب بال ٍ
توقف بوارو و كان ينظر ناحية البيت بينما كان الولد يتكلم بلهفة و يشير , و كان الوقت قد حان لألعب دوري
خرجت إلى القاعة , و بإشارة من الرجل الصيني فتح أحد الخدم مزلاج الباب , و همس عدوي :
- تذكر ثمن الفشل
خرجت عند العتبة , أشرت إلى بوارو بيدي فأسرع يقطع الشارع ناحيتي :
- ها . . إذن فكل أمورك كما يرام يا صديقي ؟ لقد بدأت أقلق , هل دخلت البيت ؟ هل البيت خالي ؟
قلت بهمس أجتهد أن أجعله مطمئنا :
- أجل , لا بد أن فيه طريقا سريا , ادخل و دعنا نلتمسه
عدت إلى درجات العتبة , و هم بوارو ليتبعني ببراءة . . ثم بدا أن شيئا ما يدور في رأسي , إنني أحاكي دور يهوذا الاسخريوطي الذي وشى بالسيد المسيح , و فجأة صرخت :
- ارجع يا بوارو ! ارجع من أجل حياتك , انه فخ , لا تهتم بي , اهرب في الحال !
في اللحظة التي تكلمت أو صرخت محذرا أمسكت بي يد كأنها كماشة , و قفز أحد الخدم الصينيين أمامي لكي يمسك بوارو
و قفز بوارو إلى الخلف و رفع يده , ثم فجأة تصاعد دخان كثيف حولي يخنقني , يقتلني , أحسست أني أنهار . . كان هذا هو الموت
ثم عدت إلى وعيي و أنا أتألم , رأسي يدور , رأيت أول ما رأيت وجه بوارو يقعد مقابلي يراقبني بوجه قلق , صرخ فرحا حين رآني أنظر إليه :
- آه لقد عاد وعيك , كل شيء جيد يا صديقي المسكين !
- أين أنا ؟
- أين ؟ في بيتنا
نظرت حولي . . أجل , هذا المحيط أعرفه , و في الموقد كانت قطع الفحم الأربع التي نثرتها
- نعم , لقد أحسنت صنعا , كانت هذه الفكرة ممتازة هي و كرة الكتب , لو أنهم قالوا لي : (( إن صديقك هيستنغز غير واسع العقل , أليس كذلك ؟ )) فسوف أقول : كلا , بل أنتم مخطئون
- إذن فقد فهمتها ؟
- أجل , لقد أخذت حذري و أنفقت الوقت اللازم لكي أحكم خطتي , نقلك الأربعة الكبار بالقوة , لماذا ؟ ليس لأنهم يخافونك و يريدون أن يبعدوك عن الطريق , كلا , بل جعلوك طعما ليصطادوا به بوارو العظيم . . كنت أنتظر هذا منذ زمن فأعددت له
و لما وصل الصغير البريء رسولا منهم فهمت كل شيء و أسرعت معه , و من حسن الحظ أن سمحوا لك أن تقف على العتبة , فقد كنت أخشى أن أفشل في العثور عليك بعد أن أتخلص منهم
قلت بوهن :
- هل قلت : تتخلص منهم ؟ وحدك ؟
- لا شيء من أمرهم يحتاج ذكاءً , إذا استعد المرء من قبل فكل شيء عندئذ يهون , ذلك شعار الكشافة . . انهم يقولون : (( كن مستعدا )) أليس كذلك ؟
منذ وقت غير بعيد قدمت خدمة لكيمياوي شهير له عمل في الغازات السامة أثناء الحرب , فابتدع لي قنبلة صغيرة بسيطة يسهل حملها و ما علي إلا أن أرميها فتنفجر , يتصاعد منها دخان ثم يكون فقد الوعي . .
و في الحال صفرت قليلا فأسرع بعض زملاء جاب – و كانوا يراقبون البيت قبل أن يصل الولد إلى بيتنا و تتبعوا طريقنا حتى لا يم هاوس – حيث تولوا الأمر برمته !
- لكن لماذا لم تفقد أنت وعيك ؟
- صاحبنا رقم ((4)) الذي ألف تلك الرسالة المحبوكة ذكر ملاحظة ساخرة عن شاربي فأخفيته – و معه كمامة التنفس – تحت وشاحي الأصفر
صحت بلهفة :
- إنني أتذكر . .
و مع كلمة أتذكر عادني الرعب و الخوف على سندريلا , تراجعت و أنا أئن ! لا بد أني فقدت وعيي مرة أخرى بعض الوقت , صحوت فإذا بوارو يدفع لي كأس الليمون . .
- ماذا هناك يا صديقي ؟ ماذا هناك ؟ قل لي
أخبرته بالأمر كلمة كلمة و أنا أرتعش , صاح بوارو :
- يا صديقي ! لقد عانيت كثيرا لكنني لم أكن أعرف شيئا من هذا فاطمئن , كل شيء على ما يرام
- هل ستجدها ؟ لكنها في أمريكا الجنوبية و حين نصلها تكون قد ماتت منذ زمن طويل , و الله وحده يعلم كيف ستموت
- لا , لا , انك لم تفهم , بل هي آمنة و في صحة حسنة , بل لم تقع في أيديهم بتاتا . .
- لكن البرقية من برونسين ؟
- لا , أنت لم تستلم منه برقية , ربما استلمت برقية من أمريكا الجنوبية باسم برونسين , هذا مختلف , قل لي : ألم يظهر لك أن منظمة مثل هذه ذات فروع في كل أنحاء العالم يمكن أن تضغط علينا بواسطة فتاة صغيرة مثل سندريلا التي تحبها كثيرا ؟
- لا , أبدا
- حسنا , أما أنا فقد عرفت ذلك و لم أقل لك شيئا لأنني لم أرد أن أزعجك من غير ضرورة , لكني اتخذت إجراءاتي الخاصة
إن رسائل زوجتك تبدو كأنها كتبت كلها من المزرعة , لكنها كانت في مكان آمن دبرته أنا منذ ثلاثة شهور . .
نظرت إليه طويلا . .
- حقا ؟
- أجل , إنما عذبوك بكذبة !
أدرت رأسي , وضع بوارو يده على كتفي , كان في صوته شيء ما لم أسمعه أبدا من قبل :
- أنت لا تحب أن أعانقك . . سوف أتصرف على الطريقة الإنكليزية , لن أقول شيئا أبدا , لكن دعني أقل : ما أسعد رجلا عنده صديق مثل صديقي !
الفصل الرابع عشر
خاب ظني كثيرا من نتيجة هجوم بوارو بالقنبلة على البيت في الحي الصيني , فقد هرب رأس العصابة !
عندما هرع رجال جاب لما صفر بوارو وجدوا أربعة رجال صينيين في القاعة فقدوا وعيهم , لكن الذي هددني بالموت لم يكن فيهم , فتذكرت حينئذ أنني حين أجبرت على الخروج إلى عتبة البيت بقي هذا الرجل في المؤخرة , و بذلك ظل خارج منطقة الخطر الذي أحدثته القنبلة ففر من مخرج من المخارج الكثيرة التي عرفناها فيما بعد
لم نعلم من الأربعة الذين وقعوا في قبضتنا شيئا , و التحقيق الواسع الذي أجرته الشرطة لم يكشف صلة لأحدهم بالأربعة الكبار
لقد كانوا فقراء من الحي , و قد ادعوا جهلا تاما باسم لي شانغ ين , إنما استأجرهم رجل صيني للخدمة في البيت , و لم يكونوا يعلمون شيئا من شؤونه الخاصة !
في اليوم التالي تعافيت تماما من أثر القنبلة إلا من صداع خفيف , فنزلنا إلى الحي الصيني و تفحصنا البيت الذي استُنقذت ُ منه . .
كان المبنى يتألف من بيتين مصعدين متصلين معا بممر من تحت الأرض , كانا مهجورين لا فرش فيهما , و قد غطيت الشبابيك المكسورة فيهما بستائر بالية . .
اطلع جاب على الأقبية و كشف المدخل المؤدي إلى القبو الذي لبثت فيه نصف ساعة عسيرة , و أكد التحقيق أنها غرفة جهزت خصيصا من أجلي في الليلة السابقة
الحرير الذي كسا الحيطان و الأريكة و السجاد الممدود على الأرض كان متقنا . قد لا أكون من الخبراء العارفين في الفن الصيني إلا قليلا , و لكني أملك أن أجزم أن كل قطعة في تلك الغرفة كانت بالغة القيمة عظيمة الشأن !
أجرينا تفتيشا دقيقا للبيت , و كنت أرجو أن نجد وثائق هامة , ربما قائمة بأسماء عملاء الأربعة الكبار , أو رسائل في خططهم , لكننا لم نجد شيئا إلا رسائل كان الرجل الصيني يرجع إليها عندما كان يملي علي رسالتي إلى بوارو , كانت تتألف من سجل كبير عن كل عمل عملناه و عن شخصيتنا و مكامن ضعفنا !
كان بوارو مبتهجا من هذا جدا , كأنه طفل , أما أنا فلم أحسب أنها ذات لا سيما أن الرجل الذي جمعها – كائنا من كان – قد أخطأ في بعض آرائه بصورة مضحكة , و قد أوضحت ذلك لصديقي و نحن راجعان إلى بيتنا , قلت :
- بوارو , أنت تعرف الآن ماذا يظننا خصمنا ؟ يبدو أنه بالغ كثيرا في تقدير قوتك العقلية و استخف بي ! لا أدري كيف يمكن أن تنفعنا هذه المعرفة ؟
ضحك بوارو بطريقة مزعجة :
- أنت لم تفهم يا هيستنغز , إننا نستطيع الآن أن نعد أنفسنا لمواجهة أساليبهم في الهجوم حيث أدركنا بعض أخطائنا , مثلا يا صديقي : نعلم أنك يجب أن تفكر قبل أن تعمل , فإذا رأيت مرة أخرى فتاة ذات شعر أحمر في مشكلة فيجب أن تنظر إليها بارتياب , أليس كذلك ؟
كان في رسائلهم إشارات سخيفة عن تهوري المحتمل , و أشاروا أنني كنت سريع التأثر بالفتيات ذوات الشعر الأحمر , و كان فيها إشارة تعني بوارو فقدرت على الرد عليه :
- و ماذا عنك ؟ هل ستعالج (( غرورك المفرط )) و (( أناقتك الشديدة )) ؟
لم يكن بوارو مسرورا من ردي السريع
- بلا ريب يا هيستنغز انهم يخدعون أنفسهم في بعض الأمور , و سيعلمون ذلك في الوقت المناسب , و في غضون ذلك علمنا بعض الأشياء و عرفنا أنه يلزمنا الاستعداد
كانت الكلمة الأخيرة هذه البديهية المفضلة لديه منذ عهد قريب , و قد بدأت أكره معناها , و ما زال قائلا :
- هيستنغز , إننا نعرف شيئا ما و هذا فيه خير , لكن ينبغي أن نعرف أكثر
- في أي اتجاه ؟
استرخى بوارو في كرسيه و عدل علبة الكبريت التي ألقيتها على الطاولة بإهمال , و أحسست أنه يستعد لإلقاء خطبة طويلة :
- يجب يا هيستنغز أن نواجه أربعة أعداء , أربعة أشخاص مختلفين , رقم ((1)) عرفناه و لم نعامله , بالمناسبة , لقد بدأت يا هيستنغز أفهمه فهما حسنا : عقل شرقي حاذق , إن كل ما لقيناه كان من تدبير عقل لي شانغ ين
رقم ((2)) و رقم ((3)) لهما نفوذ و مرتبة عليا , و هما لذلك في حصانة من هجومنا , غير أن هذا سلاح ذو حدين: انهما مكشوفان فينبغي أن يقدرا حركاتهما بعناية , و هما – مع ذلك – قادران على النجاح لما لهما من شهرة و منصب . أما رقم ((4)) . . .
تغير صوت بوارو قليلا و تابع :
- أما رقم ((4)) فان نجاحه في تخفيه . . من هو ؟ لا أحد يعرف ! ما هو شكله ؟ لا أحد يعرف ! كم مرة رأيناه ؟ خمسا , أليس كذلك ؟ فهل يستطيع أحدنا أن يجزم بأنه سيعرفه إذا رآه ؟
تذكرت الرجال الخمسة المختلفين : حارس المصحة القوي الجسم , جيمس الرجل الذي كان يلبس المعطف المزرر في باريس , الخادم , الطبيب الشاب الباسم في قضية الياسمين الأصفر , و البروفيسور الروسي . . لم يشبه أي واحد من هؤلاء الخمسة الآخر , فقلت :
- لا , لا دليل عندنا بتاتا !
ابتسم بوارو :
- أرجوك لا تدع لهذا اليأس الشديد سبيلا إليك , إننا علمنا شيئا أو شيئين . . علمنا أنه رجل متوسط الطول أشقر الشعر قليلا , لو كان رجلا طويلا أسمر ما استطاع أن يخدعنا في هيئة الطبيب الأشقر القصير , و لابد أن يكون أنفه صغيرا مستقيما , لأن الأنف الكبير لا يصير صغيرا , ثم لا بد أن يكون رجلا شابا ليس أكبر من الخامسة و الثلاثين , إذن فقد وصلنا إلى شيئا ما : رجل بين الثلاثين و الخامسة و الثلاثين , متوسط الطول , لونه طبيعي , خبير في ( الماكياج ) , ليس لديه أسنان طبيعية
- ماذا ؟
- أجل يا هيستنغز , الحارس كانت أسنانه مكسورة صفراء , و في باريس كانت أسنانه بيضاء مستوية , و حين كان طبيبا كانت أسنانه بارزة قليلا , و لما كان سافرونوف كانت أنيابه طويلة , لا شيء يغير الوجه مثل طقم مختلف من الأسنان , هل ترى أين يقودنا كل هذا ؟
- لا أدري
- يقولون : (( حرفة الرجل مكتوبة في وجهه )) . .
- مجرم ؟
- خبير في فن الماكياج أو أنه كان ممثلا في يوم ما
- ممثل ؟
- أجل , فنان بارع , الممثلون صنفان : صنف يطيعه دوره و صنف يطيع دوره , صنف يؤثر في الدور و صنف يتأثر به و يقلب شخصيته حسب دوره . يجب أن نبحث عن رقم ((4)) بين ذلك الصنف السابق , انه فنان بارع يلبس الدور الذي يمثله بإتقان
- إذن أنت تظن أنك تقدر أن تتبعه في المسرح ؟ وددت لو أن هذه الفكرة جاءتك من قبل , لقد ضيعنا الكثير من الوقت
- كلا يا صديقي , لم نضيع وقتنا , عملائي مشغولون بالبحث منذ بضعة شهور , جوزيف ايرونز واحد منهم , هل تذكره ؟ لقد جمعوا قائمة بالرجال الذين تنطبق عليهم الأوصاف المطلوبة : شباب في الثلاثين : ذوو موهبة في التمثيل , تركوا المسرح في السنين الثلاث الأخيرة بصورة قاطعة
فقلت بتشوق :
- حسنا؟
- كانت القائمة طويلة , منذ زمن و نحن مشغولون بالحذف و أخيرا أخرجنا منها أربعة أسماء . . . هاهي يا صديقي
أعطاني قصاصة من الورق قرأتها جهرة :
إيرنست لوتريل : ابن كاهن في الشمال , غريب الأطوار , طرد من مدرسته , ذهب ليعمل في المسرح و هو في الثالثة و العشرين , مدمن مخدرات , يفترض أنه سافر إلى أستراليا قبل أربع سنين و لم نستطع متابعته منذ أن غادر إنكلترا , عمره الآن اثنان و ثلاثون عاما , طوله 5 أقدام و 10 بوصات , حليق , شعره بني , أنفه مستقيم , البشرة شقراء , العينان رماديتان
جون سانت مور : اسم منحول , الاسم الصريح مجهول , كأنه من أصل لندني , عمل في المسرح منذ أن كان طفلا حيث كان يؤدي أدواره في مسرح المنوعات , انقطعت أخباره منذ ثلاث سنوات , في الثالثة و الثلاثين , طوله 5 أقدام و 10 بوصات , نحيف , عيناه زرقاوان , لونه أشقر
أوستين لي : اسم منحول , اسمه الصريح أوستين فولي من أسرة طيبة , كان يحب شكلا واحدا من التمثيل , و كون لنفسه شخصية متميزة , له سجل حربي متألق , مثل في مسرحيات عدة , كان يتحمس لتثميل قصص الجريمة , أصابه انهيار عصبي شديد من حادث سيارة قبل ثلاث سنوات و نصف و لم يظهر على المسرح بعدها , لا أثر له يدل على مكانه الآن , عمره 35 سنة , طوله 5 أقدام و 9 بوصات و نصف , بشرته شقراء و شعره بني و عيناه زرقاوان
كلود داريل : يفترض أنه اسمه الصريح , أصله مجهول , مثل في مسرح المنوعات و مسرح الذخائر , ليس له أصحاب مقربون , كان في الصين عام 1919 , عاد عن طريق أمريكا , مثل أدوارا قليلة في نيويورك , في إحدى الليالي لم يظهر على خشبة المسرح و لم يسمع عنه شيء بعدها , تقول شرطة نيويورك بأن اختفاءه غامض جدا , عمره 33 سنة , شعره بني , بشرته شقراء , عيناه رماديتان , طوله 5 أقدام و 10 بوصات و نصف
قلت و أنا أضع الورقة :
- هذا مثير مدهش ! اذن فهذه نتيجة التحقيق الذي دام شهورا ؟ و هذه الأسماء الأربعة , أي منها تشك فيه ؟
أشار بوارو بيده بإيماءة نصيحة :
- يا صديقي . . إن هذا سؤال مبكر في الوقت الراهن . لا بد أنك لاحظت أن كلود داريل كان في أمريكا و الصين , و هي حقيقة ذات دلالة , ربما , و لكن لا يجدر أن نسمح لأنفسنا بالتحيز لهذه النقطة تحيزا مفرطا , ربما كان ذلك مجرد صدفة
- و ما هي الخطوات التالية ؟
- الأمور تسير بنظام , ستظهر كل يوم إعلانات مكتوبة بحذر , أصدقاء و أقرباء أحد هؤلاء الأربعة سيتصل بمحامي في مكتبه , حتى اليوم يمكن أن يكون . . . أوه . . انه التلفون يرن , ربما يكون الرقم خطأ كالعادة و سوف يعتذرون عن الإزعاج , و ربما يكون شيء قد ظهر
عبرت الغرفة و رفعت السماعة :
- نعم , نعم , هنا بيت السيد بوارو , أنا كابتن هيستنغز , ها ! السيد ماكنيل ؟ نعم , الآن أخبره و نأتي حالا
رددت السماعة و رجعت إلى بوارو :
- بوارو , محاميك السيد ماكنيل اتصل : امرأة صديقة لكلود داريل ! الآنسة فلوسي مونرو ! ماكنيل يريد أن تذهب إليه
صاح بوارو :
- فورا
و اختفى في غرفة نومه ليعود و على رأسه القبعة . و في الحال ركبنا سيارة حملتنا إلى وجهتنا , و دخلنا مكتب السيد ماكنيل الخاص
على المقعد المواجه للمحامي كانت امرأة دميمة تجاوزت سن الشباب , شعرها أصفر مقزز فيه خصلات مجعدة فوق كل أذن , جفناها مصبوغان بالسواد , لكنها لم تنس على كل حال وضع الحمرة و أحمر الشفاه
ماكنيل :
- هاهو السيد بوارو , سيد بوارو , هاهي الآنسة مونرو التي تلطفت كثيرا بنا و استجابت لنا
- ها . . ذلك لطف كبير !
ثم تقدم بوارو و قال بحماس غير آبه بمشاعر السيد ماكنيل :
- إن الآنسة تزهر كالوردة في هذا المكتب الممل العتيق !
احمر وجه الآنسة مونرو خجلا و ابتسمت ابتسامة متكلفة و هي تعلق قائلة :
- لا تمزح يا سيد بوارو , إني أعرفكم أيها الفرنسيون
- يا آنسة , نحن لسنا كالإنكليز بلهاء أمام الجمال , و أنا لست فرنسيا , أنا بلجيكي
- لقد ذهبت إلى أوستند بنفسي
- إذن فأخبرينا عن السيد كلود داريل
- عرفت السيد كلود داريل يوما ما , و قد رأيت إعلانك , و حيث إنني لا أعمل الآن في المحل , قلت لنفسي : انهم يريدون أن يعرفوا عن المسكين العجوز كلودي , فلعل وراءه ثروة لم يعرفوا وارثها , يجب أن أذهب في الحال
نهض السيد ماكنيل :
- حسنا يا سيد بوارو هل أترككم وحدكم ؟
- أنت لطيف جدا , لكن ساعة الغذاء تقترب و قد خطرت ببالي فكرة صغيرة , ربما تريد الآنسة أن تأتي معي لتناول الغذاء
تلألأت عيناها , و خطرت ببالي أنها كانت في ضائقة مالية و أن وجبة مشبعة لا ترفض
و خرجنا جميعنا في سيارة أجرة نحو أحد مطاعم لندن الفاخرة , و عندما وصلنا طلب بوارو غذاء لذيذا
بدأت تأكل وجبتها بشهية فيما طرق بوارو بحذر موضوعه المهم :
- مسكين السيد داريل , انني آسف لأنه ليس معنا الآن
تنهدت الآنسة مونرو :
- صدقت , الحق أنه ولد مسكين ! ترى ماذا جرى له ؟
- قد مضى وقت طويل على رؤيتك له , أليس كذلك ؟
- آه ! منذ سنين ! لم أره منذ الحرب . . كلودي كان ولدا مرحا لم يتحدث عن نفسه أبدا , لكن كل شيء سيبين اذا كان هو وريثا مفقودا . . و هل هو إرث شرعي يا سيد بوارو ؟
- للأسف مجرد تركة , و المسألة هي في تحديد الهوية , لذلك يلزمنا البحث عن شخص كان يعرفه جيدا , أنت كنت تعرفينه جيدا , أليس كذلك يا آنسة ؟
- لا بأس يا سيد بوارو , فأنت رجل لطيف تحسن اختيار طعام السيدات بأفضل من صغار هذه الأيام السفهاء , و أظن كونك فرنسيا غير مخيف . . آه ! أنتم – أشارت بأصبعها نحوه – أيها الفرنسيون أشرار , أشرار
عارضها بوارو متلطفا :
- لا , لا يا آنسة , لا تقولي ذلك . الآن هلا وصفت لي السيد داريل هذا ؟
- ليس بالطويل و لا بالقصير , أنيق , عيناه رماديتان فيهما زرقة , شعره أشقر , فنان و أي فنان ! لم أر مثله في الناس , و لو لا الغيرة لأصبح رجلا مشهورا , آه يا سيد بوارو , كم نعاني نحن الفنانين من الغيرة و الحسد , أذكر مرة في مانشستر . .
- هذا كلام جميل يا آنسة في أمر السيد داريل , النساء لا ينسين شيئا و يلاحظن ما يفوت الرجال , لقد عرفت امرأة عرفت رجلا من بين اثني عشر رجلا , هل تدرين كيف ؟ لقد لاحظت سمة مميزة تظهر على أنفه إذا غضب ! هل في الرجال من يلاحظ شيئا كهذا ؟
صرخت مونرو :
- ألا نستيطع ذلك ؟ نعم , نحن نلاحظه . . أتذكر كلودي , الآن بدأت أفكر بذلك : كان كثير العبث بالخبز الذي على الطاولة , كان يضع قطعة صغيرة بين أصابعه و يفركها ليأكل لب الرغيف , قلد رأيته يفعل ذلك مئة مرة , و أستطيع أن أعرفه من هذه العادة التي فيه
- و هل تحدثت معه عن عادته هذه يا آنسة ؟
- لا؛ فأنت تعرف طبع الرجال : لا يحبون أن تنتقدهم لا سيما ان بدا لهم أنك تنهاهم عن فعلها , لم أقل كلمة واحدة البتة , لكني كنت أضحك في سري كثيرا , انه لم يكن يشعر بفعله
هز بوارو رأسه موافقا , و رأيت يده ترتعش قليلا حين مدها إلى صحنه , قال :
- و خط اليد وسيلة لتحديد الهوية , لا شك أن عندك رسالة كتبها السيد داريل . .
هزت رأسها أسفا :
- لم يكتب لي سطرا في حياته أبدا
- هذا مؤسف
قالت مونرو فجأة :
- لكن عندي صورة . .
- عندك صورة ؟
قفز بوارو من كرسيه مذهولا :
- صورة قديمة , حين كان عمره ثمانية أعوام . .
- لا ضير ان كانت عتيقة أو باهتة , هلا أعطيتني إياها يا آنسة ؟
- أجل
- ربما تأذنين أن أستنسخ منها , إن ذلك لا يأخذ وقتا
- أجل إذا كنت تحب ذلك
نهضت مونرو , قالت بمكر :
- يجب أن أنصرف , أسعدني لقاؤك أنت و صاحبك يا سيد بوارو . .
- و الصورة ؟
- سأبحث عنها هذه الليلة , أظن أنني أعلم مكانها , سوف أرسلها لك فورا
- ألف شكر يا آنسة , أنت لطيفة جدا , أرجو أن نأكل الغذاء معا في وقت قريب !
- أنا على استعداد متى شئت . .
- لكني أجهل عنوانك
و بكبرياء شامخة سحبت مونرو بطاقة من حقيبتها و أعطتها له , كانت بطاقة وسخة بعض الشيء , و كان العنوان المطبوع مشطوبا كتب فوقه عنوان آخر بقلم رصاص . ثم مع انحناء ودعنا المرأة و ذهبنا , و سألت أنا بوارو :
- هل تظن حقا أن هذه الصورة خطيرة ؟
- نعم يا صديقي . . (( الكاميرا لا تكذب )) , نستطيع أن نكبر الصورة و نضبط النقاط البارزة , و نعلم كثيرا من التفاصيل : الأذن التي لا يستطيع أن يصفها لك أحد , حقا , ماأعظم هذه الفرصة التي جاءت لنا , من أجل هذا اتخذت احتياطاتي
عبر نحو الهاتف و طلب رقم وكالة التحري الخاصة , أوامره كانت واضحة و حاسمة : اثنان من الرجال يذهبان الى عنوان ذكره و يراقبان مونرو , يتابعانها حيث تروح و تجيء , و يؤمنان لها الحماية اللازمة
رد بوارو السماعة و عاد إلي
- و هل هذا لازم يا بوارو ؟
- ربما , لا ريب أنني أنا و أنت مراقبان , و سوف يعرفون من كان يأكل معنا غذاء اليوم , ربما أحس رقم ((4)) بالخطر
مضت عشرون دقيقة , رن الهاتف , و عندما أجبت عليه سمعت على الطرف الآخر صوتا جافا :
- أهذا هو السيد بوارو ؟ هنا مستشفى سانت جيمس , قبل عشر دقائق أحضرت لنا امرأة شابة , الآنسة فلوسي مونرو . . حادث سيارة . . إنها تسأل عن السيد بوارو بإلحاح , يجب أن يأتي حالا , فربما لا تعيش طويلا
أخبرت بوارو , أصبح وجهه شاحبا :
- هيا يا هيستنغز , هيا ننطلق كالبرق
و في غضون عشر دقائق وصلنا إلى المستشفى , سألنا عن مونرو , صعدنا إلى جناح الحوادث لكن الممرضة قابلتنا عند الباب . . قرأ بوارو الخبر في وجهها !
- ماتت ؟
- قبل ست دقائق
وقف بوارو مصعوقا و بدأت الممرضة تكلمه بلطف و هي لا تدري حقيقة حزنه :
- إنها لم تعان ألما , ظلت فاقدة للوعي , دهمتها سيارة , و لم يتوقف السائق . . آمل أن أحدا سجل رقم سيارته
قال بوارو همسا : الأحداث تتسارع ضدنا !
- تود أن تراها ؟
تقدمتنا الممرضة و تبعناها . . المسكينة فلوسي مونرو : ممددة و الحمرة على شفتيها و شعرها المصبوغ ! إنها ترقد بسلام و على وجهها بسمة ! . . همس بوارو :
- أجل . . الأحداث تجري ضدنا
و فجأة رفع رأسه كأن فكرة ما خطرت له و قال : لقد اقتربت نهاية هؤلاء الأشرار ! أقسم لك و أنا أقف هنا جنب جثة هذه المسكينة أني لن أرحمهم عندما يحين الوقت !
- ماذا تقصد ؟
لم يجب بوارو بشيء , بل التفت إلى الممرضة و هو يطلب بلهفة بعض المعلومات , و أخذ أخيرا أخيرا قائمة بالأغراض التي وجدت في حقيبتها . صاح بوارو صيحة مكبوتة و هو يقرأها . .
- هل ترى يا هيستنغز ؟ هل ترى ؟ لا ذكر لمفتاح المزلاج , و لا شك أن معها مفتاحا
لا , لقد صرعت بدم بارد و أول رجل انحنى فوقها أخذ المفتاح من حقيبتها , لكن الوقت ما زال معنا , فقد لا يجد ما يريده في الحال
و حملتنا سيارة أخرى إلى عنوانها : بيوت قذرة متجاورة في حي قديم !
مضى وقت طويل حتى أذن لنا أن ندخل بيتها , لكننا كنا قانعين أن أحدا لا يستطيع أن يغادر و نحن نرقب البيت من الخارج
أخيرا دخلنا , و كان واضحا أن شخصا قد دخل قبلنا هنا ؛ لأن محتوى الأدراج و الخزائن كله مبعثر منثور , و الأقفال مكسورة و الطاولات مقلوبة , كانت عجلة الباحث قبلنا عنيفة جدا
بدأ بوارو البحث في الحطام . . فجأة , وقف منتصبا يصرخ و يمسك إطارا عتيقا لصورة فوتوغرافية . . أما الصورة نفسها فقد اختفت ! قلبه ببطء . . كان على ظهر الإطار لاصق مدور صغير , ملصق يبين السعر , قلت له :
- ثمنه أربع شلنات
- أبصر جيدا يا عزيزي هيستنغز , انه لاصق جديد , ألصقه الرجل الذي نزع الصورة و الذي سبقنا هنا , كان يعلم أننا سنحضر , لذلك ترك هذه لنا . . انه رقم ((4)) . . كلود داريل بالتأكيد !