الحياة



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

الحياة

الحياة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

ثقافي ابداعي


    الاربعة الكبار(5 )

    yaser
    yaser
    Admin


    عدد المساهمات : 106
    تاريخ التسجيل : 22/11/2010

    الاربعة الكبار(5 ) Empty الاربعة الكبار(5 )

    مُساهمة  yaser السبت نوفمبر 27, 2010 1:08 am

    الفصل السابع

    كان الأنين المبعوث في أذني من غرفة جاري في الفندق قد أرق جفني فلم أنم , و كانت الشكوى المتقطعة التي أسمعها طوال الليل تحدث في نفسي أثرا عميقا يطرد عني النعاس و يملأ ليلتي أسفا و حزنا , إنها غرفة هاليدي التي نام فيها ليلة إطلاقه , بدا واضحا أن تجربته القاسية قد حطمت أعصابه و أخذت منه مأخذا عظيما !

    و عجزنا في الصباح أ ننتزع من هاليدي شيئا , كان خائفا من انتقام هؤلاء الأشرار إذا تكلم , و كان متأكدا من القوة الهائلة التي يملكها الأربعة الكبار حتى بات يرفض النقاش في أمرهم

    أكل غذاءه ثم سافر إلى إنكلترا حيث زوجته و طفلته الصغيرة

    وجدت نفسي متحمسا للأحداث , و رأيت أن علي أن أواجه بوارو من قريب أو بعيد , لكن هدوءه الذي أزعجني جعلني أقول :
    - أرجوك يا بوارو دعنا نفعل شيئا !
    - حسنا يا صديقي فماذا نفعل ؟
    - نخبرهم عن الأربعة الكبار
    - نخبر من ؟
    - الشرطة

    تبسم بوارو ببرود ثم قال :
    - انهم لن يصدقونا , سيتهموننا بالجنون ؛لأننا لا نملك دليلا نستدل به , دعنا ننتظر ..
    - ماذا ننتظر ؟
    - ننتظرهم حتى يقوموا بتجربة , انظر إلى لعبة الملاكمة , اللعبة المفضلة لديكم في إنكلترا : إذا لم يتحرك أحدهما فلا بد أن يتحرك الآخر و يسمح أحدهم لخصمه بالهجوم ليعرف طريقته و أسلوبه , و نحن الآن ندع الخصم يهجم ..

    أوجست خوفا و ريبة من كلامه :
    - هل تظن أنهم سيفعلون ؟
    - بلا شك , لقد حاولوا إخراجي من إنكلترا . ثم جريمة دارتمور التي ترمز لها معان مقصودة , ثم دخلنا و أنقدنا ضحيتهم من المقصلة , و أمس تدخلنا مرة أخرى في خططهم , انهم لن يقفوا حتما ساكتين إزاء ما كل ما جرى

    كنت في تفكيري أتأول كلمته حين طرق الباب , و من غير استئذان دخل رجل إلى الغرفة و أغلق الباب خلفه و جلس

    كان رجلا طويلا نحيفا بشرته شاحبة أنفه معوج قليلا , كان يلبس معطفا مزررا حتى ذقنه و قبعة ناعمة تغطي عينيه . قال بصوت نام :
    - عذرا أيها السيدان , قد دخلت دخولا غير لائق , لكن مهمتي خطيرة !

    و جلس و هو يبتسم بخبث , فأثارني هذا الموقف و كدت أثب من مكاني لو لا أن بوارو منعني بإشارة من يده , ثم سأل هذا الزائر الثقيل :
    - كان دخولك فظا كما قلت , فما هي مهمتك ؟
    - عزيزي السيد بوارو , أريد أن أخبرك بصراحة , أنت تزعج أصحابي
    - كيف ؟
    - أنت تعرف كما أعرف يا سيد بوارو
    - و من هم أصدقاؤك هؤلاء ؟

    لم يجبه بل أدخل يده في جيبه فأخرج علبة لفائف سحب منها أربعا و نقرها على الطاولة ثم أعادها ..
    - ها ها .. نعم , فالمسألة هكذا إذن ؟ و ماذا يقول أصدقاؤك ؟
    - يقولون : (( عليك أن تعمل قدراتك الخارقة في غير هذا الشأن و أن تعود إلى حل مشاكل نساء المجتمع اللندني ))
    - يبدو أنه برنامج سلمي ! و إذا لم أوافق ؟

    حرك يده حركة فيها معنى مقصود واضح:
    - طبعا ستأسف و تندم كثيرا , وسوف يحزن كل أصحاب السيد هيركيول بوارو العظيم حزنا لا ينفعهم لأن الحزن – مهما اشتد – لا يمكن أن يعيد للأموات الحياة !
    - حسنا , هب أني موافق
    - إذن أدفع لك تعويضا ..

    و أخرج من جيبه المحفظة و أخرج منها عشرة أوراق كل واحدة من فئة العشرة آلاف فرنك ألقى بها إلى الطاولة ثم قال :
    - هذا ضمان حسن النية فحسب , سوف تعطى عشرة أضعاف هذا !

    أدركت أن الخصم بين أيدينا و أن الفرصة مناسبة لإخبار الشرطة من أجل أكبر انتصار في هذا الزمان , كان قلبي ينبض بقوة , شعرت بالهيجان و لم أعد أطيق انتظارا , و صرخت بعنف و أنا أقفز من مكاني :
    - يا إلهي ! هل تظن ..؟

    لكن بوارو أقعدني بقوة و قال بحزم :
    - اجلس يا هيستنغز , اجلس مكانك .. ما رأيك يا سيد لو اتصلت الآن بالشرطة و صديقي يمنعك من الهروب ؟
    - على كل حال افعل إن كنت تظنه من الحكمة ..
    - صرخت : لا أستطيع أن أحتمل أكثر .. انظر ..

    نهضت بسرعة و خطوت خطوات كبيرة إلى الباب و ألصقت ظهري به , همس بوارو :
    يبدو أن هذه هي الطريقة المثلى

    فقال زائرنا و هو يبتسم :
    - لكنك لا تثق بها , أليس كذلك ؟

    و قلت بإصرار و عزم :
    - هيا يا بوارو لا تتأخر !

    رفع بوارو السماعة فقفز الرجل قفزة مفزعة تشبه قفزة القط لكنها إلي , كنت على أهبة له فالتحمنا بعراك شديد أشبه بالمصارعة , و شعرت فجأة أنه ضعيف جعل يهوي بين يدي فزادني همة حتى طرحته أرضا و شعرت بنشوة النصر , و أخذ خيالي يطوف في نهاية مسرحية ..

    ثم كان شيء غير عادي : وجدتني مقذوفا و رأسي يضرب بالحائط , نهضت مدهوشا أبحث عن خصمي الذي اختفى , ركضت نحو الباب فوجدته مقفلا علي , أسرعت إلى الهاتف :
    - مكتب الاستقبال ؟ أمسكوا الرجل قبل أن يخرج , رجل طويل يلبس معطفا طويلا مزررا و قبعة ناعمة , انه مطلوب للشرطة

    مضت بضع دقائق قبل أن أسمع صوت المفتاح في الباب , كان مدير الفندق , و صرخت صرخة مجنون :
    - الرجل هل أمسكتموه ؟
    - لا يا سيدي لم نر أحدا ..
    - كيف وقد مر بك الآن ؟
    - لا يمر بي أحد بتاتا ..
    - بوارو : أظن أنكم مررتم بشخص ما ربما يكون موظفا هنا ؟
    - نادل يحمل طبقا لا غير يا سيد
    - نعم , هكذا إذن ..

    كانت الدهشة تملأ جو الفندق و الحيرة تراها في وجوه المسؤولين و خاض الناس في شك وتكذيب , لكن المسألة قد فهمها بوارو فقال بثقة :
    - من أجل هذا يلبس معطفا مزررا حتى ذقنه

    همست بخجل و أنا أحس بالهزيمة :
    - كنت أظن أني أسقطته أرضا !
    - نعم كانت خدعة يابانية , لا تثريب عليك يا صديقي , كل شيء سار حسب الخطة , خطتهم قطعا , و هذا ما كنت أريده

    صرخت حين رأيت محفظة على الأرض , التقطتها بلهفة , إنها من أثر المعركة , لا بد أنها سقطت من جيب زائرنا العزيز !

    كان فيها فاتورة باسم السيد فليكس لون , وورقة أخرى صغيرة من دفتر الملاحظات كتب عليها بخط غير واضح بالرصاص , كانت هذه الكلمات مثيرة لنا :
    (( اجتماع المجلس القادم يوم الجمعة , الساعة 11 صباحا : 34 – شارع إيشيلير))
    و إمضاء رقم ((4)) بخط كبير

    و كنا في يوم الجمعة , و الساعة 10.30 , صرخت بذهول :
    - يا إلهي إنها فرصة ثمينة , الأمور الآن بأيدينا , يجب أن نبدأ من هذه اللحظة .. لعل الحظ في هذه المرة كان لنا

    همس بوارو كأنما يحدث نفسه :
    - انه جاء من أجل ذلك , أكاد أفهم كل شيء ..
    - ماذا فهمت ؟ يا بوارو متى ستكف عن محادثة نفسك ؟

    نظر بوارو إلي نظرة إشفاق ثم ابتسم :
    - ((قالت العنكبوت للذبابة :هلا دخلت بيتي يا عزيزتي ؟ )) هذا نشيد الأطفال عندكم يا معشر الإنكليز , أليس كذلك ؟ الحذر الحذر يا صديقي , انهم ماكرون دهاة و لكن ليس بدهاء هيركيول بوارو
    - لا أفهم شيئا مما تقوله يا بوارو !
    - ما زلت أسائل نفسي عن زيارة الصباح هذه , هل كانوا يأملون بالنجاح في رشوتي أم هي زيارة ترهيب لأخافهم و أترك مهمتي ؟ لكني الآن فهمت الحقيقة , إنها خطة ماكرة بلا شك و محكمة في الوقت نفسه , الظاهر هو الرشوة أو الترهيب , و المعركة كانت من أجل أن يكون سقوط المحفظة أمرا محتوما و أخيرا المصيدة : شارع إيشيلير , الساعة 11 صباحا , لكن القبض على هيركيول بوارو ليس سهلا , فليعلموا !

    عرفت أني ساذج و بليد فقلت :
    - يا إلهي! انهم يعلمون الشياطين المكر و الدهاء
    - لكن فيها لغزا آخر : الوقت : لماذا لم يختاروا الليل ؟ أليس الليل أحسن لهم ؟ لماذا السعاة الحادية عشر صباحا ؟ هل في هذا الصباح كيد يدبرونه لا يريدون أن يعرفه بوارو ؟

    كان بوارو في نوبة من الحيرة و القلق , ثم هز رأسه و قال :
    - إنني ماكث هنا و لن أغادر هذا الصباح , دعنا ننتظر , سوف نرى

    كان الزمن يمر بطيئا ثقيلا كأن الساعة لا تتحرك , كان في رأسي خيال كثير و حوادث , كنت أشعر أحيانا بالعجز و الضعف عن المواجهة , و أحيانا أخرى بالإخفاق في أن أفهم ما يجري

    الساعة الآن الحادية عشر و النصف و لم يحدث أي جديد ..

    طرق الخادم الباب و سلم ورقة صغيرة زرقاء اللون لبوارو .. إنها من مدام أوليفير تطلب منه الحضور فورا ..

    و نهضنا مسرعين إلى مدام أوليفير دون تأخير , و استقبلتنا في المجلس الذي قعدنا فيه أمس , ووجدتني في دهشة مرة أخرى من شخصية هذه المرأة القوية صاحبة الوجه الذي يشبه وجه الراهبة , إنها سدت الخلل الذي كان وراء مدام كوري و بيكريل , ذات هالة علمية مذهلة و عين متوقدة تكاد تسيطر على محدثها بنظرة ثابتة من طرفها , بادرت بالقول :
    - أمس قابلتماني من أجل هاليدي و بعد انتهاء المقابلة علمت أنكما دعوتما إينز سكرتيرتي , لكن دهشتي أنها غادرت القصر معكما و لم ترجع حتى الآن !
    - هذه هي القضية أم عندك أمر آخر ؟
    - كلا , بل الخطير أن اقتحاما تم الليلة الماضية للمختبر و اختفت أوراق و مذكرات قيمة , و لقد حاول اللصوص سرقة أي شيء آخر أشد خطرا , لكن الخزانة – من حسن الحظ – كانت مقفلة بإحكام ففشلوا أن يفتحوها !
    - يجب أن علمي الحقيقة يا مدام : إن سكرتيرتك مدام فيرونوا هي الكونتيسة روساكوف اللصة المحتالة المشهورة , و هي المسؤولة عن اختفاء هاليدي , لكن كم مضى عليها و هي تعمل عندكم ؟
    - منذ خمسة شهور تقريبا , ولكن هذا يدعو إلى الذهول !
    - إنما هي الحقيقة , هل كان العثور على الأوراق سهلا أم أنه عمل يدل على معرفة سابقة ؟
    - الأمر العجيب أن اللصوص كانوا يعرفون بغيتهم تماما , هل تظن أن مدام إينز .. ؟
    - نعم لا شك أنها كانت الدليل , لكن ما هو الشيء الثمين الذي فشل اللصوص في سرقته ؟ جواهر ؟

    هزت رأسها و هي تبتسم و قالت بصوت خافت :
    - بل أثمن من الجواهر كثيرا يا سيد بوارو .. راديوم !
    - راديوم ؟
    - نعم , إنني الآن اقترب من النهاية القصوى في تجاربي , و عندي قدر قليل من الراديوم , و قد قدم لي قدر أكبر من أجل تمام أبحاثي , و هذا القدر لو كان ضئيلا فإنه بالنسبة إلى المخزون العالمي قدر عظيم تساوي قيمته ملايين الدولارات !
    - و أين هو الآن ؟
    - في الحقيبة الرصاصية من الخزانة المحكمة التي تبدو عتيقة لكنها – بصراحة – انتصار فني في حقل الصناعة , و هي جعلت اللصوص يفشلون !
    - كم يصح أن تحفظي هذا القدر من الراديوم .
    - لمدة يومين آخرين غير هذا اليوم ثم تنتهي تجاربي
    - هل تفهم مدام فيرونوا هذا ؟
    - نعم
    - آها , إذن سيعود أصحابنا مرة أخرى , سوف أحمي ثروتك من الراديوم لكن لا تخبري أحدا .. هل عندك مفتاح للباب الذي يؤدي إلى المختبر من الحديقة ؟
    - نعم , ها هو , عندي نسخة أخرى , و هذا مفتاح الباب الذي يؤدي إلى الممر الذي يطل على فيلا الجيران
    - شكرا لك يا مدام , اذهبي إلى النوم و أنت مطمئنة كالعادة , لا تقولي شيئا لمساعديك لا سيما السكرتيرة , دعي الأمر لي

    كان بوارو متهلل الوجه و هو يغادر بيت مدام أوليفير , و كان يفرك يديه فرحة بنصر مرتقب , كانت الأمور كأنما تشير إلى الأحسن , سألته :
    - ماذا ستفعل الآن يا بوارو ؟
    - الآن يا هيستنغز سوف نغادر باريس إلى إنكلترا
    - ماذا ؟
    - كما أقول لك , سوف نحزم أمتعتنا و نأكل غذاءنا و نذهب بالسيارة إلى جيردونورد ..
    - و الراديوم ؟
    - أقول : إننا سوف نسافر إلى إنكلترا , ولم أقل : إننا سنصل هناك ..

    أعمل دماغك مرة يا هيستنغز , ألا تدري أنك مراقب ؟ يجب أن يطمئنوا أننا ذاهبون إلى إنكلترا , و لن يطمئنوا حتى يرونا نركب القطار و ننطلق ..

    - و ننسل من القطار في آخر لحظة ؟
    - كلا يا هيستنغز , بل لا يرضيهم أقل من المغادرة التي لا خداع فيها
    - لكن القطار لا يتوقف إلا عند كاليه
    - يقف في حالة واحد : إذا دفعنا له
    - سوف يرفضون و لا يقبلون , كيف يقف قطار سريع ؟
    - هناك حيلة , ما هي غرامة إساءة استعمال المقبض الصغير في القطار ؟ مائة فرنك ؟
    - هل ستمسك مقبض الباب و تسحبه أنت يا بوارو ؟
    - بل صديقي بيير كومبوا سيفعله , و سوف يثير ضجة كبيرة مع الحارس فيكون مشهدا يستحوذ على انتباه المسافرين فننسل في أثناء ذلك خارجين !

    خطة بوارو سارت كما رسم لها بعد أن قبل صديق بوارو القديم – الذي كان على صلة ببوارو و معرفة بأسلوبه و منهاجه في العمل – و استطاع أن يصطنع ضجة كبيرة كأنها قنبلة دخانية سترت فرارنا من القطار دون أن يحس بنا أحد

    و تنكرنا تماما بعدما اشترى بوارو ما يلزم ذلك ووضعه في حقيبة صغيرة , و أصبح من غير السهل أن يعرفنا أحد بعد أن رأيت مشهدنا يدل على اثنين متسكعين يلبس كلاهما قميصا ضيقا قذرا ذا ألون فاقعة تدعو إلى السخرية !

    أكلنا غذاءنا في أحد مطاعم باريس المغمورة و انتظرنا مغيب الشمس و الليل يحل على شوارع باريس و أزقتها , و سيطر الظلام و أخذت مصابيح البيوت و الحوانيت تقطع الظلام الدامس على جوانب المكان

    ووجدنا أنفسنا قريبين من منزل مدام أوليفير , نظرنا إلى أعلى المكان و أسفله , لم نر أحدا , تسللنا إلى الممر المغطى بالشجر الموحش المهجور , كنا متأكدين أن لا أحد يتعقبنا لكن همسات الريح البارد الذي كان يلامس أوراق الشجر فيها نسمات الذعر !

    ربما نكون مقدمين على مواجهة مع هؤلاء اللصوص الخطرين الذين ألفوا الموت فضلا عن القسوة و القتل لأتفه الأسباب , همس بوارو :

    - لا أظن أنهم قدموا إلى المكان حتى هذه اللحظة , و ربما لا يأتون اليوم , انهم يعلمون أن لديهم ليلتين حتى يسرقوا الراديوم ليس أبعد

    أدار بوارو المفتاح في القفل بحذر شديد و دخلنا حديقة البين بخفة , لكن وجدنا أنفسنا في فك الذئب المرعب فوقعنا في الفخ ..

    عشرة رجال كانوا يحيطون في الخفاء كالسوار , كانت المقاومة لا تنقع , أوثقونا ثم حمل أحدنا كما تحمل حزمة القش , فتح باب المختبر و زجونا فيه , و انحنى أحدهم أمام الخزانة الكبيرة و فتح بابها

    شعرت برعدة خوف قاتلة تسري في عروقي و أيقنت أننا سنوضع في هذه الخزانة و لكن باب الخزانة و لدهشتي الشديدة انفتح عن درجات تنزل في ممر سري إلى الأسفل !

    دفعنا على درجات بقوة إلى الأسفل , ثم غرفة سرية مرعبة و هناك رأينا قامة سوداء مهيبة : امرأة طويلة تلبس الثوب الأسود الطويل و تغطي وجهها بقناع من المخمل الأسود كذلك , كان واضحا أنها صاحبة السلطة و سيدة الموقف , و يدل على ذلك إشارتها الصامتة التي يمتثل لها الرجال الأشداء !

    قذفنا الرجال على الأرض و تركونا وحدنا مع هذه المخلوقة الخفية خلف القناع الأسود , و لم يخامرني أدنى شك أن هذه المرأة هي رقم ((3)) الكبار الأربعة , المرأة الفرنسية المجهولة

    جثت على ركبتيها و نزعت الكمامتين عن وجهينا ثم نهضت و انتصبت أمامنا , و بحركة مفاجأة و سريعة نزعت قناعها و كشفت الغموض ..

    إنها مدام أوليفير !

    قالت بتهكم و سخرية :
    - سيد بوارو العظيم صاحب الذكاء الخرق , لقد أرسلت إليك تحذيرا صباح أمس لكنك لم تأبه له , و ظننت أنك تستطيع مواجهتنا بذكائك الخارق , أليس كذلك ؟ لكنك أتيت بقدميك إلى هذا الموضع الذي لا تحسد عليه !

    لم يجب بوارو لكني رأيت فكه الأسفل يرتخي و هو يحدق إليها .. لا شك أن المفاجأة أذهلته, و قالت هي بلطف :
    - حسنا هذه هي النهاية , لن نسمح لأحد أن يعترض خططنا , فاطلب طلبك الأخير ..

    كنت أراقب الموقف و رأيت الموت أمامي , الموت له رائحة تعرفها تملأ المكان , لكن القتيل وحده هو الذي يشتم رائحته , و ذكرت زوجتي و أطفالي .. صور و خيال و شريط من الأحداث يمر سريعا في ذهني المكدود قبل أن أنظر إلى وجه بوارو , فوجئت بهيئة بوارو الهادئة , لا تبدو عليه آثار الخوف و الفزع و لم يغز الشحوب وجهه , كان رائعا حقا , عيناه على مدام أوليفير , قال بثبات :

    - حسنا أيتها المرأة الفاضلة , إن فيك طبيعة مثيرة للاهتمام , لكن الوقت لا يسع لدراستها , لدي طلب بسيط , الرجل المدان يسمح له بالتدخين للمرة الأخيرة , في جيبي علبة لفائف لو تكرمت بالإذن ..

    ثم نظر إلى القيد في يديه , فضحكت و هي تقول :
    - تريدني أن أفك قيدك ؟ انك امرؤ ذكي بلا شك , لكني لن أفك قيدك و سأجد لك لفافة تبغ

    مدت يدها إلى جيبه و أخرجت علبة اللفائف ثم أمسكت منها واحدة ووضعتها بين شفتيه و نهضت و قالت :
    - والآن عود الثقاب , أليس كذلك ؟
    - لا , ليس لازما , لا أحتاج إليه ..

    كان في صوته جرس غريب أجفلني و أثار الريبة في نفس مدام أوليفير فارتعدت , فيما نطق هو بهدوء :
    - لا تتحركي سوف تندمين إذا فعلت , انتبهي إلي جيدا ! أرجوك أظن أنك تعرفين مادة الكورار (مادة تستخرج من بعض النباتات لتسميم السهام ) , هنود أمريكا الجنوبية يدهنون بها سهامهم , ان خدشا بسيطا بها يعني الموت , بعض القبائل يستعملون أنبوب النفخ و هذا ما أملكه لكن على شكل لفافة تبغ , ما علي سوى أن أنفخ فيها .. إن هذه اللفافة مدهشة ؛ أنفخ فيها فيخرج سهم دقيق كعظمة السمكة نحو هدفه يطير سريعا كالبرق .. انك حتما لا تريدين الموت يا مدام , إذن عليك أن تحرري صديقي هيستنغز من قيوده .. تعلمين أنني أستطيع أن أدير رأسي في كل الاتجاهات و يداي مقيدتان , إياك أن تفكري في الطريق الخطأ , حذار حذار من الخطأ و إن يكن صغيرا !

    رعشة رعب سيطرت عليها , يداها ترتعدان , وجهها مصفر كثيب , شفتاها تميلان نحو الزرقة , حركاتها تنطق بالحسد الأسود , و لكنها نفذت أمر بوارو بدقة !

    ثم جاء صوت بوارو يستمر في الأوامر بعد أن أصبحت حرا من قيودي :
    - سيد هيستنغز , قيد السيدة بسرعة , أحكم قيدها , تأكد من ذلك

    ثم حررت بوارو من قيوده فورا و تلمسنا طريق الخروج فوجدناه مفتوحا , و كان جنودها خارج المكان , و قبل أن نفر من المكان اتجه بوارو نحو السيدة و أحنى ظهره و قال :
    - هيركيول بوارو لا يقتل بسهولة يا مدام , ليلة طيبة !

    و بعد ثلاث دقائق كنا نجتاز المكان مسرعين و مازلت أكذب نفسي أننا عدنا إلى الحياة مرة أخرى و ما زلت في ذهول تام و لساني معقود من الانطلاق .. هل كان حلما مزعجا ؟

    اندفع بوارو يثرثر و قد انتابه هيجان مثير , يتكلم بمزاج حاد لا يكاد يضبط كلامه :
    - أستحق كل الذي قالته لي المرأة , افني أحمق ثلاث مرات و أبله , و حيوان تعس غبي ستا و ثلاثين مرة ! ربما أستطيع أن أفخر بنفسي أنني نجوت منهم لكن تقديري كله كان خطأ , لقد نجحوا في خداعي ووقعت في الشرك كما أرادوا !

    عرفوا أنني سأواصل حتى النهاية فصنعوا لذلك ما صنعوا , الآن أصبح كل شيء واضحا : السهولة التي استسلموا بها , و تسليم هاليدي , مدام أوليفير كانت هي الروح الحاكمة , فيرا روساكوف نائبتها , و قد استطاعت أن تتم أبحاثها بواسطة المعلومات التي أخذتها من هاليدي !

    لقد عرفنا إذن من هو رقم ((3)) .. إنها أعظم امرأة في العالم !

    الأربعة الكبار جماعة تضم عقل الشرق و عقل الغرب و قوتين أخريين مجهولتين .. يجب أن نعرفهما .. يجب ذلك يا هيستنغز !

    سنعود إلى لندن لنبدأ البحث مرة أخرى !
    - ألا تريد أن تخبر الشرطة عن مدام أوليفير ؟
    - لن يصدقونني يا عزيزي , هذه المرأة هي رمز فرنسي , كما أننا لا نملك دليلا , سنكون محظوظين إن لم تبلغ هي الشرطة عنا
    - ماذا ؟
    - نعم لقد وجدونا في قصرها ليلا , و معنا مفتاحه , و لن يكفي أننا قيدناها و كممناها بشكل مدهش و استنقذنا أرواحنا من مخالب الموت ..


    الفصل الثامن

    بعد تلك المغامرة الرهيبة في فيلا باسي لم نعد نطيق المقام في باريس فانطلقنا مرتحلين إلى إنكلترا على عجل , و هناك وجد بوارو كومة من الرسائل بانتظاره , قرأ إحداها و البسمة على وجهه , ثم دفعها إلي و قال :
    - اقرأ هذه الرسالة

    كانت الرسالة مذيلة بإمضاء آبي ريلاند , فذكرت أنه ذاك الرجل الذي وصفه بوارو بأنه أغنى رجل في العالم , و كانت تعرب عن قلق ريلاند لأن بوارو تخلى عن قضية أمريكا الجنوبية في آخر لحظة , قال بوارو :
    - هذه الرسالة تجعلني أبذل مزيدا من التفكير المتواصل العميق , أليس كذلك ؟
    - لكن من الطبيعي أن يبدي الرجل أسفه , و له الحق أن يغضب
    - لا يا هيستنغز , أنت ثقيل الفهم , ألا تذكر كلمات مايرلنغ , ذلك الرجل الذي فر إلينا من الموت ووجد الموت في انتظاره عندما قال : رقم ((2)) رمزه حرف (($)) و عليها خطان علامة الدولار الأمريكي أو شريطان و نجمة , و هكذا نحدس أن يكون أمريكيا و أنه يمثل قوة الثروة , زد عليه أنه عرض علي قدرا سخيا من المال من أجل إغرائي بالخروج من إنكلترا , ماذا تفهم من ذلك يا هيستنغز ؟

    قلت و أنا أنظر إليه نظرة أبله :
    - هل تقصد أنك تشك في آبي ريلاند صاحب الملايين أنه رقم ((2)) من الأربعة ؟
    - قد بدأت تفهمني قليلا يا هيستنغز . نعم , إني أشك فيه , المشهور عن ريلاند أنه رجل ثري و قوي لكنه عديم الضمير , رجل يملك كل الثروة و سلطته لا حدود لها لكنه لئيم و غليظ في المعاملة , لا يستطيع أحد أن يقف في وجهه لأن عنده قوة خارقة !
    - متى كنت تجزم بهذا الاعتقاد ؟
    - إنها فكرة مجردة تجول في خاطري , ليس لدي دليل يثبت هذه الفكرة , لكنني مستعد لأقدم كثيرا كثيرا من أجل معرفة ذلك , و أنا أظن أن النظرية التي تقول أن رقم ((2)) هو ريلاند سوف تساعدنا على الاقتراب من الهدف
    - تستطيع أن تزوره و تعتذر منه
    - ربما كان سهلا أن أفعل ذلك

    بعد يومين عاد بوارو إلى المنزل و هو مصاب بالدهشة و الانفعال , ثم أمسك بي بكلتا يديه كما يفعل عادة عند تحمسه و قال :
    - يا صديقي , إنها مناسبة مذهلة حقا ربما لا تتكرر أتت من غير تدبير , لكن فيها خطورة و مغامرة حتى إني أكاد لا أطلب منك المحاولة
    - إذا كنت تحاول أن تلقي الروع في صدري فإني أظنك تسير في الاتجاه الخطأ يا بوارو

    و بعد أن هدأ قليلا و خف تحمسه كشف خطته التي تقتضي أن أتقدم بطلب عمل لدى آبي ريلاند بعد أن أعلن أنه يحتاج سكرتيرا إنكليزيا من ذوي النمط الاجتماعي الراقي و ذوي الكفاءة العالية و الحضور المتميز . قال بوارو يعتذر :
    - ربما أستطيع أنا أن أدبر نفسي , لكن الأمر يبدو صعبا : أن أتكلف دور المحتاج و أنكر شخصيتي المشهورة , ربما كنت أتكلم الإنكليزية بطلاقة و لكن سيكون علي أن أضحي بشاربي .. و حتى لو تخليت عن شاربي أيضا سأظل معروفا أنني هيركيول بوارو

    وافقته أن الأمر عسير عليه و أعلنت استعدادي و رغبتي في اختراق بيت ريلاند و أنني أطمح للنجاح

    - سوف أهيئ لك الشهادات التي تجعل ريلاند يلعق شفتيه , سآتيك بورقة من وزير الداخلية نفسه , سأجعله يحط على يدي كعصفور أتى لينقر كسرة الخبز

    كانت الخطوة الأولى أن نذهب إلى فنان في المكياج . حدق المزين بي مليا و هو صامت , و كنت أنظر ألي رأسه الصغير و حجمه الضئيل مثل هيركيول بوارو , ثم بدأ صنعته بجد و همة

    بعد ساعتين تقريبا قمت إلى المرآة فنظرت فأذهلني مشهد نفسي , حذاء خاص جعلني أطول بإنشين , و معطف طويل أبدو فيه نحيفا طويلا , لقد تغير شكل حاجبي و ملامح وجهي مختلفة تماما , اختفى شاربي و ظهر من جانب فكي الأيمن سن ذهبية , تحول لوني من السمرة إلى البياض , إن المظهر بلا شك ذو قدرة على الخداع , نظر بوارو و قال :

    - اسمك هو آرثر نيفلي , يحفظك الله يا عزيزي , أرجو الله أن ينجيك من الخطر

    في فندق سافوي , في الموعد الذي حدده آبي ريلاند قدمت نفسي ..

    قادوني إلى غرفة علوية حيث كان يجلس رجل طويل خلف طاولة ضخمة , لقد بدا نحيفا طويلا و له ذقن بارزة و أنف معقوف قليلا , عيناه اللامعتان تكادان تختفيان تحت حاجبين غليظين . أما شعره فقد كان رماديا غزيرا , و كان في فمه سيغار طويل لا يكاد يتركه

    كان يتكلم بطريقة فظة من طرف من فمه , و كان يمن على محدثه بعدد الكلمات , بل يشعره أنه يتفضل عليه بالحديث :
    - اجلس

    جلست و كان قلبي يدق عنيفا حتى خشيت أن يسمع دقه , كان أمامه رسالة يبدو أنها بخط وزير الداخلية :
    - في هذه الرسالة أنك ثقة , فهل تجيد المجاملة الاجتماعية ؟
    - أظن أنني أستطيع إرضاءك في هذا
    - لو كان عندي جماعة فيهم الدوق و الأيرل و الفيكونت يجتمعون في بيتي الريفي , هل تستطيع أن تجلسهم كلا في مقعده المناسب ؟
    - بكل سهولة يا سيدي

    تبادل معي حديثا قصيرا ثم أشعرني بالموافقة , ووجدت نفسي مستخدما عنده , فقد كان ريلاند يريد سكرتيرا مطلعا على خفايا المجتمع الإنكليزي حيث كان عنده سكرتير آخر أمريكي و كاتبة اختزال

    ثم بعد يومين توجهت إلى هاتون شيز مركز دوق مقاطعة لوشير الذي استأجره ريلاند ستة أشهر , و هناك لم أجد صعوبة في تأدية واجبي ؛ فقد عملت – ذا ت يوم – سكرتيرا لأحد أعضاء البرلمان

    كان ريلاند يستضيف نخبة من كبار الناس في نهاية كل أسبوع , أما سائر أيام الأسبوع فكانت هادئة نسبيا , و كان في البيت ثلة من الموظفين : كبير الخدم و مدبرة المنزل و الطاهي و خدم و خادمات , و حاولت إمعان النظر فيهم جميعا و معرفتهم عن قرب , فكنت أشعر بالريبة بكبير الخدم , أما الشاب الأمريكي السيد أبلباي فقد بدا مرحا يثق بنفسه و يتقن عمله باقتدار

    ديفز الخادم الخاص للسيد ريلاند الذي أحضره من نيويورك شخص غامض و نفسي تمتلئ شكوكا فيه , و كان عنده سيدة ثقة

    و اجتهدت أن أتقرب من الآنسة مارتن كاتبة الاختزال , تلك الفتاة التي تسحرك . كانت في الثالثة و العشرين تقريبا , لها عينان عسليتان و شعر خروبي مسترسل , كانت فتاة لعوبا رغم محاولاتها أن تحتشم . حاولت كسب ثقتها لا سيما بعد أن تبين لي أنها تكره سيدها و لا تثق فيه

    مكثت في هاتون شيز ثلاثة أسابيع , و كانت حياة هادئة لا حوادث فيها , حيث لم أستطع أن أعرف شيئا يستحق الذكر , و بدا ريلاند في نظري شخصية ذات مكانة اجتماعية متميزة لها القدرة على التأثير , و لا يبدو أنه على صلة بمنظمة الأربعة الكبار , و كانت تترسخ في نفسي قناعة أن بوارو قد أخطأ في ظنه الجائر الذي يربطه بهذه المنظمة المشبوهة الى أن سمعته مرة يذكر بوارو حين يأكل عشاءه في إحدى الأمسيات :

    - يقولون انه رائع ذاك الرجل الصغير , لكني وجدته انهزاميا ! اتفقت معه على صفقة و لكنه رفضها في الدقيقة الأخيرة , إني لا أود معاملة صاحبك هيركيول بوارو مرة أخرى !

    في تلك اللحظة شعرت بزيف ( المكياج ) الذي يكسو وجنتي ...

    ثم حصلت على قصة مثيرة عندما سافر ريلاند و معه أبلباي , فقد كنت أسير في الحديقة مع الآنسة مارتن بعد شرب الشاي , كانت الفتاة تبدو طبيعية جدا و غير منفعلة , لكني كنت ألمح أسرارا و أحاديث تجول في رأسها , و أخيرا قالت :
    - هل تعلم يا ميجر نيفلي أنني أفكر في الاستقالة من عملي في هذا المكان ؟

    ظهرت علي علائم الدهشة فيما تابعت هي قائلة :
    - آه ! أدرك أن كثيرا من الناس سينعتونني بالحماقة ؛ انهم يحسدونني على هذه الوظيفة , لكني ما عدت قادرة على التحمل المزيد من الشتائم , لا أحد يصدق أن مثل هذه الأفعال تصدر عن مثل هذا الشخص العظيم !
    - و هل يسيء لك ريلاند ؟

    هزت رأسها ثم قالت :
    - انه سريع الغضب و ذو مزاج متقلب , و هذا شيء لا يحتمل , وهو إذا صار ثورا هائجا كاد يبطش بمن يلقاه لأتفه الأسباب , لا أحد يستطيع احتماله , إنها مشكلة تستعصي على الحل

    قلت و أنا أرجو سماع المزيد :
    - هل لك أن توضحي الأمور ؟
    - كما تعلم فإنني أفتح رسائل السيد ريلاند فأسلم بعضها إلى أبلباي و الأخرى أقوم بالإجراءات التي تخصها بنفسي . و إذا فرزت الرسائل الأولى علي أن أتعامل بحذر مع نوع من هذه الرسائل , و هي التي تجيء مكتوبة على ورق أزرق و قد ظهر على أحد أطرافها الرمز – رقم ((4)) – بخط صغير

    و عندها لم أستطع كبح صرخة ذهول انطلقت من أعماقي , لكني حاولت خنقها في مهدها مما جعلها تنظر إلي قائلة :
    - عذرا , هل تريد أن تقول شيئا ؟
    - لا , لا شيء بتاتا , أكملي ..
    - حسنا , الرسائل التي تحمل هذا الرمز هناك أمر صارم بعدم فتحها , و يجب تسليمها إلى السيد ريلاند نفسه ..

    و لقد حدث في صباح أمس أن فتحت إحدى هذه الرسائل خطأ فذهبت من فوري إلى السيد ريلاند و شرحت له الموقف و اعتذرت له كثيرا لكنه انقلب فجأة إلى صورة شيطانية مرعبة و كاد يفتك بي , كنت خائفة منه جدا !

    - و هل كان الأمر يستحق هذه الثورة ؟ ماذا كان في الرسالة ؟
    - لا شيء , و هذا مما يدعو إلى التساؤل و يثير الدهشة , لقد قرأتها قبل أن أكتشف خطئي و أذكرها كلمة كلمة , لم يكن فيها ما يدعو إلى القلق ..

    شجعتها قائلا :
    - هل تستطيعين تكرارها ؟
    - نعم : (( سيدي العزيز , إن الأمر الضروري الآن هو رؤية الأملاك . إذا كنت تصر على تضمين المحجر فان سبعة عشر ألفا تبدو معقولة , إن 11% عمولة تبدو كثيرة , 4% قدر وافر ..
    المخلص آرثر لافير شام ))

    أصغيت إلى حديثها بكل عناية مع تظاهري بعدم الاهتمام , فيما تابعت قائلة :
    - من الواضح أن السيد ريلاند كان يفكر في شراء بعض الأملاك , لكني في الحقيقة أشعر أن في الأمر ما يدعو لإثارة الفضول , انه يبدو رجلا خطيرا , فماذا تنصحني يا سيد نيفلي ؟ إن خبرتك في الحياة أكبر

    حاولت تهدئة الفتاة قليلا مشيرا إلى أنه ربما كان يعاني من حالة صحية مؤثرة , و لقد بدا عليها الارتياح , لكني لم أشعر بالاطمئنان إلي السهولة التي تم بها الأمر

    غادرت الفتاة المكان و جلست وحدي أفكر بهذه الرسالة الهامة التي دونت كلماتها على عجل . بدت الرسالة صادقة و ليس فيها ما يدعو للإثارة , فهل كانت تخفي صفقة تجارية ينوي ريلاند إنجازها . و هل هو حريص ألا تكشف أي أسرار منها قبل إنجازها ؟ ربما , فهذا جائز , لكن العلامة التي كانت تظهر على المغلفات هي موطن الإثارة .. رقم ((4)) بخط صغير !

    مكثت طيلة اليوم و معظم نهار اليوم التالي و أنا أفكر في هذه الرسالة , و فجأة شعرت أني اهتديت إلى الحل , رقم ((4)) كان هو الدليل , فحين نقرأ كل رابع كلمة في الرسالة تظهر رسالة أخرى مختلفة :
    ((ضروري رؤيتك , المحجر , 17 , 11 , 4 ))

    الأرقام كانت تعني بسهولة : 17 – أكتوبر و الذي يصادف غدا , 11 : الساعة , 4 : هو الإمضاء المعروف أما المحجر فهو إشارة إلى المحجر المهجور الذي يبعد نصف ميل عن بيت ريلاند و هو منطقة معزولة تصلح للقاءات السرية

    شعرت بالانتصار عندما تمكنت من فهم اللغز , و شعرت بفرحة غامرة و سعادة في داخلي لأني ربما تفوقت في هذه المرة على بوارو , مما جعلني أفكر في مغامرة كشف هذا اللقاء وحدي , لكني في النهاية بعد تفكير و تردد قهرت هذا الإغراء و علمت أن هذا عمل كبير خطير ربما يعرض فرصة نجاحنا إلى الخطر , و لا بد من إعلام بوارو فهو يملك عقلا أفضل مني بالتأكيد

    كتبت له رسالة تبين الحقائق , و أوضحت له ضرورة رصد ذلك اللقاء , و كشفت له رغبتي في إدارة اللعبة وحدي إذا رأى ذلك من الحكمة , ثم أخذت الرسالة بنفسي إلى محطة البريد و قد فصلت له كيفية القدوم إلى المكان إذا لم أستطع مقابلته في المحطة

    كنت شديد الانفعال في مساء اليوم التالي و كان المنزل خاليا من الضيوف و لكني كنت مشغولا طيلة المساء مع السيد ريلاند , و قد فقدت الأمل أن أستطيع لقاء بوارو في المحطة , لكني كنت واثقا أنني سوف أغادر قبل الحادية عشر

    كان عقرب الساعة يقترب من العاشرة و النصف عندما نظر ريلاند إلى ساعته , و أشار بأن العمل قد انتهى ذاك اليوم , ففهمت الإشارة و انسحبت بهدوء نحو الطابق العلوي كأنني أريد الاستعداد للنوم لكنني تسللت من الأسفل بهدوء عبر درج جانبي , ثم تسللت إلى الحديقة و قد أخذت حذري و لبست معطفا أسود طويلا

    نظرت خلفي فجأة فوقعت عيناي على السيد ريلاند يخرج من نافذة مكتبه إلى الحديقة مسرعا لكي يفي بوعده , انطلقت مسرعا أكثر لكي أسبقه إلى المحجر , و هناك كان المكان خاليا , فتوجهت نحو شجيرات منعزلات في إحدى زوايا المحجر و قد تشابكت مع بعضها لأرقب الأحداث

    و بعد عشر دقائق ظهر ريلاند يمشي بتشامخ , يلبس قبعته التي تدلت على عينيه و قد تدلى من فمه سيجاره الذي لا يفارقه , نظر حول المكان ثم نزل في حفر المحجر . سمعت همس رجال كان يصل إلى أذني مما يشير إلى أن الرجال الآخرين كانوا قد وصلوا إلى المكان أولا

    خرجت من بين الشجيرات بهدوء شديد دون أي ضجيج , و تسللت منحدرا نحوهم ببطء و حذر شديدين , و اختفيت خلف صخرة كبيرة كانت تفصلني عنهم

    كان الظلام يلف المكان , و كنت أسمع حديثهم بوضوح , و شعرت أني آمن في موقع استراتيجي غير مرصود , لكن المفاجأة المحتومة وقعت عندما نظرت إلى حافة الصخرة فوجدت نفسي فجأة أمام فوهة بندقية مصوبة نحوي , و إذا الرجل يكمن قرب الصخرة و قد وقعت في الشرك تماما .. ياللفزع !

    صرخ في بلهجة مرعبة , و شعرت بفوهة البندقية الباردة على قفا عنقي !

    قال ريلاند متشدقا : مرحبا , لقد كنت أنتظرك . ثم صاح بالرجل :
    حسنا يا جورج , أحضره هنا

    قادني الرجل و أنا أمتلئ غيظا و حنقا من هذا الفشل الكبير بعد أن تم تكميدي و تكبيلي بإحكام . و خاطبني ريلاند بلهجة حازمة كلها تهديد ووعيد :
    - هذه هي نهايتكما , لقد حاولتما التدخل في شأن الأربعة الكبار أكثر من مرة , ولن يكون الأمر سهلا , هل سمعت بالانهيار الصخري ؟

    لقد حدث مثل هذا الانهيار في هذا المكان قبل سنتين , و سيحدث آخر بعد قليل هنا أيضا , وسوف يتم ذلك بكل دقة و إحكام , لكن صديقك لا يحترم مواعيده بدقة كما يبدو , أليس كذلك ؟

    اجتاحتني موجة رعب و شعرت بالرعدة تسري في جسدي حين ذكرت بوارو و أنه بعد لحظات سوف تقوده قدماه إلى الفخ و لا أملك أية وسيلة لتحذيره من هذا المصير المشؤوم , أستطيع فقط أن أدعو الله راجيا ألا يأتي هنا , و مع مرور الوقت كنت أشعر بالاطمئنان ..

    فجأة اندفعا بسرعة بعد سماع وقع أقدام تقترب .. كان القادم هو بوارو , و صرخ ريلاند :
    - ارفع يديك !

    قفز ديفز مرافق ريلاند ف فاجأ بوارو من الخلف , لقد اكتمل الكمين . قال ريلاند :
    - أنا مسرور بلقائك يا سيد بوارو

    بدا بوارو ضابطا أعصابه بصورة عجيبة , لم يضعف و لم يهتز , لكني رأيت عيناه تبحثان يمنة و يسرة في الظلمة , سأل :
    - صديقي هل هو لديكم ؟
    - نعم , كلاكما في الفخ , فخ الأربعة الكبار !

    ابتسم بوارو بسخرية ثم سأله :
    - فخ ؟ أي فخ هذا ؟
    - ألم تدرك ذلك حتى هذه اللحظة ؟
    - أدرك أن هناك فخا لكنك مخطئ في ظنك يا سيد , أنت الذي وقع في الفخ لا أنا و صديقي !
    - ماذا تقول ؟

    رأيت الاضطراب على وجه ريلاند فيما راحت عيناه تبحثان في المكان و التطير بدأ يظهر في حركته و نبرة صوته ..

    - إذا أطلقت النار فانك ترتكب جريمة قتل أما عشر عيون ترقب الحدث , سوف تشنق بسببها , المكان محاصر تماما , رجال سكوتلانديارد يحيطون بالمكان منذ ساعة سقط الملك في هذه الجولة يا سيد آبي ريلاند


    ثم أصدر صفيرا مثيرا , و في برهة أصبح المكان يضج بحركة الرجال المسلحين حقا , كأن ذلك تم بطريقة سحرية , أمسكوا بريلاند و خادمه الخاص و جردوهما من السلاح , ثم تحدث بوارو بضع كلمات مع الضابط المسؤول , و بعد لحظات أصبح المكان خاليا من الرجال و الحركة , أقبل بوارو يعانقني كأني في حلم ليلي مرعب !
    - انك لم تصب بأذى , هذا رائع , لقد لمت نفسي كثيرا لأني تركتك تذهب وحدك !
    - إني في صحة تامة , لكنني مضطرب قليلا , لقد سقطت في شركهم الصغير , أليس كذلك ؟
    - لكنني كنت أنتظره , و من أجل هذا كان عملك مع هذا الشخص . اسمك مزيف , و شخصيتك التضليلية لم يقصد منها الخداع أبدا يا عزيزي
    - ماذا تقول ؟ هل أنت جاد في حديثك ؟ لماذا لم تخبرني بشيء عن هذا كله ؟

    كانت الأسئلة تتبعثر من بين شفتي من الدهشة دون ضبط , و شعرت بعجزي عن فهم هذه اللعبة ..

    - كما قلت لك يا هيستنغز , انك تتمتع ببراءة الأطفال يا صديقي , و إن لم تكن مخدوعا فيصعب عليك أن تخدع هؤلاء , لقد اكتشفت من أول لحظة و لقد توقعت كل ما حدث , إنها مسألة رياضية واضحة النتيجة لكل من يعمل خلاياه الرمادية بشكل صحيح , حاولوا أن يجعلوك طعما , وكانت الفتاة هي الوسيلة , فهل كان شعرها أحمر ؟
    - إن كنت تقصد الآنسة مارتن , فان شعرها يحوي ظلا ناعما من اللون الخروبي , ولكن ..
    - لقد درسوا شخصيتك بإمعان , انهم جماعة مدهشون !

    نعم يا صديقي , كانت الفتاة متورطة تماما في المؤامرة , لقد كررت عليك الرسالة و هي تروي قصتها مع ريلاند , إنها طريقة ذكية بلا شك , و أنت استطعت تحليل الشفرة التي لم تكن صعبة على كل حال , لكن الشيء الذي لم يحسبوا حسابه أني كنت أنتظر هذا الفعل الذي سيقدمون عليه ثم تدبرت الأمور مع جاب و هكذا انتصرنا كما ترى

    لم أشعر بالسرور تجاه ما حدث و لم أكن راضيا عن أسلوب بوارو هذا , و لقد علم شعوري

    و في صباح اليوم التالي توجهنا إلى لندن في قطار الحليب الذي ينطلق مبكرا في رحلة غير مريحة على الإطلاق

    خرجت من الحمام للتو غارقا في أحلامي بفطور لذيذ و إذا بصوت جاب ينبعث من غرفة الجلوس :
    - لأول مرة أشعر أنك تندفع سريعا يا بوارو , ما هذا السراب الجميل الذي أوقعتنا فيه , حادثة سيئة بلا شك

    كان بوارو في قمة دهشته ينظر إلى جاب بوجوم ثقيل و هو يتابع حديثه :
    - لقد أخذنا اليد السوداء على محمل الجد , و إذا بذلك الشخص هو الخادم

    صرخت فزعا :
    - الخادم ؟
    - نعم , انه جيمس أو أيا كان اسمه , انه يستطيع أن يمسك الرجل العجوز بأسنانه , وهو يستطيع أن يزوده بأشياء كثيرة عن الأربعة الكبار ..

    صرخت بتشنج :
    - مستحيل !
    - لماذا لا تصدق ؟ لقد اقتدنا الرجل المحترم إلى هاتون شيز , و هناك وجدنا ريلاند الحقيقي نائما على سريره و معه كبير الخدم و الطاهي و الخادم الخاص , و الله يعلم كم ربح كل واحد منهم من هذا الرهان

    بوارو – همسا - : ربما يكون إذن هو السبب في بقائه في الظل

    نهض جاب و انصرف , كان الجو مليئا بالغموض و الذهول , نظر كل منا إلى الآخر بصمت و قال بوارو :
    - إننا نعرف يا هيستنغز أن آبي ريلاند هو رقم ((2)) , و التنكر في دور الخادم كان هو الضمان الوحيد لخط الرجعة في حالة الطوارئ , أما الخادم ..

    قلت و أنا ألتقط أنفاسي :
    - نعم ؟

    رد بوارو بهدوء :
    - انه رقم ((4))

      الوقت/التاريخ الآن هو الإثنين مايو 20, 2024 8:07 am