الحياة



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

الحياة

الحياة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

ثقافي ابداعي


    الاربعة الكبار(6)

    yaser
    yaser
    Admin


    عدد المساهمات : 106
    تاريخ التسجيل : 22/11/2010

    الاربعة الكبار(6) Empty الاربعة الكبار(6)

    مُساهمة  yaser السبت نوفمبر 27, 2010 1:10 am

    الفصل التاسع

    أعقبت حادثة المحجر تلك فترة هادئة، لكني كنت أشعر أننا لم نحقق القدر الواجب من النجاح والتقدم في ملاحقة الأربعة الكبار، فمنذ اتصالنا بهم ارتكبوا جريمتين و خطفوا هاليدي، وكانوا على شفا قتلي أنا و بوارو، ولم نستطع أن نسجل إلا نقطة واحدة في هذه اللعبة الخطرة. .

    وحين صارحت بوارو بما في نفسي قال:
    - هم يضحكون حتى هذا الوقت يا هيستنغز، هذا صحيح، لكنّ المثل الإنجليزي: ((المهم من يضحك أخيراً؟)) يصدق فيهم، أليس كذلك؟ يجب أن تعلم أننا لا نواجه مجرماً سهلاً، بل نواجه أعظم أدمغة في الشرق والغرب!

    لم أكن أرغب سماع هذه الإجابة، كنت فقط أحاول استدراج بوارو من أجل الإفصاح عن بعض خطواته الـلاحقة في تعقب الخصوم، لكنني فشلت؛ لأنه قابلني بعادته المعروفة: التكتم الشديد في كل ما يريد مستقبلاً، وتركني في جهل مطبق كما يحصل دائماً!

    لقد ثارت لديَّ شكوك حول اتصالات محتملة يجـريها مع الاستخبارات السرية في الهند و الصين و روسيا، وعرفت من صورة اندفاعه في تجميد نفسه دائماً أنه كان يتقدم في لعبته المفضّلة: اكتشاف عقلية عدوّه!

    تخلى بوارو عن عمله الخاص كله، ورفض عروضاً ضخمة كما أعلم صراحة، بل كان كثيراً ما يتخلى عن قضايا يشرع في التحقيق فيها بعدما يتبين له أنْ لا صلة لها بنشاط الأربعة الكبار.

    الرابح الكبير من هذا الموقف هو المفتش جاب الذي اكتسب شهرة كبيرة لا نستطيع إنكارها من قدرته على حل كثير من المعضلات التي يعود الفضل في نجاحه فيها إلى تلميح بوارو الذكي.

    في المقابل كان جاب يمد بوارو بكثير من الأخبار اللازمة في قضاياه، وعندما عُيّن مسؤولاً في القضيّة التي سمّتها الصحف ((لغز الياسمين الأصفر)) طلب من بوارو أن يحضر لينظر فيها إن كان يهمه ذلك.

    على أثر هذه الرسالة وجدنا أنفسنا وحدنا في مقصورة قطار ينعطف بعيداً عن دخان لندن وغبارها متجهاً إلى بلدة ماركت هانْد فورد الصغيرة في مقاطعة وِرْشِسْتَرْ شَيَرْ حيث مكان اللغز.

    سألني بوارو و هو يتكّئ على جدار المقصورة:
    - ما قولك في المسألة يا هيستنغز؟

    لم أسرع في الجواب، بل حاولت أن أكون حذراً وعمدت إلى كلمة أساسها العموم:
    - كل شيء يبدو معقّداً!

    فقال بمرح: نعم، أليس كذلك؟
    - اندفاعنا بهذه السرعة يشير إلى اعتقادك أن وفاة السيد باينتر كانت نتيجة لجريمة قتل لا انتحاراً ولا حدثاً عابراً. .
    - لا، لا يا هيستنغز، أنت تسيء فهمي، هبْ أن هذا صحيح فلابد من كشف كثير من المُلبسات والظروف الغامضة.
    - هذا ما عنيته عندما قلت بأن كل شيء يبدو معقداً.
    - إذاً دعنا نستعرض حقائق القصة بهدوء ومنهجية، أعد سردها عليّ يا هيستنغز بوضوح وترتيب.

    بدأتُ أسرد أحداث القصة بنظام و منهجية قدر استطاعتي:
    - نبدأ بالسيد باينتر: رجل في الخامسة و الخمسين، غني مثقف كثير الأسفار، لكنه ضاق في سنينه الأخيرة بالسفر فعمد إلى الاستقرار بعد أن اشترى بيتاً صغيراً في وِرْشستر شَيَرْ قرب ماركت هاند فورد وأراد العكوف على الكتابة، لكنه أرسل إلى ابن أخيه الأصغر يشير عليه أن يأتي ليسكن معه في كروفت لاندز.

    فرح ابن أخيه بهذا الرأي، وكان فناناً مفلساً، وعاش مع عمه حوالي سبعة أشهر إلى أن حدثت المأساة.

    بوارو- بهمس-: أسلوبك روائي جذاب كأنك تقرأ من كتاب!

    حاولت أن أكمل القصة بحماس و جِدْ متجاهلاً كلمة بوارو:

    - لدى باينتر طقم من ستة خدم في كروفت لاندز زيادة على خادمه الصيني الخاص آه لِنْغ.

    همس بوارو مستغرقاً: الخادم الخاص الصيني آه لِنْغ . . .
    - يوم الثلاثاء من الأسبوع الأخير اشتكى السيد باينتر ألماً معوياً بعد العشاء فأرسل أحد خدمه ليحضر الطبيب، وعندما حضر الطبيب استقبله السيد باينتـر في مكتبه رافضاً أن يذهب إلى السرير، ولم يعرف أحد ما جرى بينهما من حديث، لكن الطبيب كوينتين طلب أن يرى مدبرة المنزل، وذكر أنه أعطى السيد باينتر إبرة تحت الجلد لأن قلبه في ضعف شديد، وأوصى بألا يزعجه أحد، ثم بدأ بأسئلة كثيرة عن الخدم: متى عملوا هنا؟ ومن أين جاؤوا؟ . . . إلخ.

    أجابت مدبرة المنزل أسئلته قدر استطاعتها، وكانت تعتريها الحيرة والدهشة من مغزى هذه الأسئلة.

    وفي اليوم التالي حدث شيء مرعب، فبينما كانت إحدى الخادمات تتجول في أطراف المنزل إذ شمت رائحة لحم محترق مقززة، وحين بحثت عن مصدر الرائحة عرفت أنها من مكتب سيدها، حاولت فتح الباب لكنها وجدته مقفلاً من الداخل، وبمساعدة جيرالد و الرجل الصيني تمّ اقتحام المكتب، ليجد القوم أنفسهم أمام منظر رهيب: لقد سقط السيد باينتر في موقد الغاز و قد احترق رأسه و وجهه حتى ليكاد يستحيل التعرف إليه!

    في تلك اللحظة لم يَقَعْ أيّ اشتباه، وإن لم يكن بدٌّ من لومٍ فأولى الناس باللوم هو الدكتور كوينتين الذي حقن مريضه مخدراً وتركه في هذه الحال الخطيرة.

    ثم بعد ذلك تم كشف شيء يثير الفضول: كان على الأرض عند الكرسي الذي كان يجلس عليه الرجل العجوز صحيفة ملقاة يبدو أنها قد انزلقت عن ركبتيه وقد كتب عليها بخط يد كبير ضعيف بضع كلمات ووجد إصبع السبابة في اليد اليمنى للضحية ملطخاً بالحبر، ولا بد أن الضحية كان في حال ضعف شديدة فلم يَقْوَ على الإمساك بالقلم فعمد إلى سبـابته يضعها في الحبر وكتب هاتين الكلمتين على سطح الصحيفـة التي كانت بين يديه، والكلمتان واضحتان تماماً: ((ياسمين أصفر))!

    لوحظ أن جدار المنزل كان ينمو عليه الياسمين الأصفر، وهذا دعانا أن نقول بأن رسالة الاحتضار ذات علاقة بهذا النبات، مما يوضح أن عقل العجوز كان يخرف، لكن الصحف جعلت من الحادث قصة مثيرة وأسمتها ((لغز الياسمين الأصفر)) وإنْ لم تَبْدُ حقيقة في هذه الأهمية.

    قال بوارو: تقول بأنها غير هامة؟ حسناً، إذا كنت تظن أنها غير هامة فهي كذلك.

    نظرت إليه بارتياب شديد، فقـد عودني على التهكم المـرير ولكني لم أقرأ السخرية في عينيه، وأكملت الأحداث:
    - وبعدها بدأت فصول تحقيق القضية والبحث فيها. .
    - أدرك أنك هنا بدأت تلعق شفتيك. .
    - كان هناك شعور كبير بأن المتهم هو الدكتور كوينتين أولاً؛ فهو لم يكن الطبيب المعتمد، بل كان طبيباً طارئاً بدل الدكتور بوليثو الذي كان يقضي إجازة بعيداً.

    وهناك إحساس أن الإهمال هو سبب المأساة الأول، لكن أقوال الدكتور كانت مختصرة ومثيرة، فقد كان السيد باينتر يشعر بوعكة صحية خفيفة منذ وصوله إلى كروفت لاند، وأشرف على علاجه الدكتور بوليثو، وعندما رآه الدكتور كوينتين أول مرة كان متحيّراً تجاه بعض الأعراض، و لدى انفراده بالسيّد باينتر أطلعه على أمر غريب، فهو لم يكن يشعر بأي مرض على الإطلاق، إلاّ أن طعم الكاري الذي أكله على العشاء كان في غاية الغرابة، لدرجة أنه اضطر- وقد استبدّ به الشك- أن يختلق بعض الأعذار ليصرف آه لنغ بضع دقائق تمكّن خلالها من سكب محتويات صحنه في السلطانية.

    وعلى الرغم من قوله أنه لم يشعر بالمرض، لاحظ الطبيب أن السيد باينتر كان يعاني من أثر الصدمة فقرّر إعطاءه إبرة سترايكـنين.

    وتوقفت عن سرد أحداث القصة قليلاً قبل أن أختتم معلّقاً:
    - أعتقد أن في ذلك تمام القضيّة، ولا يبقى غير الإشارة إلى النقطة الأساسية في الموضوع، وهي أن الكاري الذي لم يؤكل قد أُخضِع للتحليل فعثر فيه على كمية من الأفيون تكفي لقتل رجلين! وسكتّ، فسأل بوارو بهدوء:
    - وما رأيك يا هيستنغز؟
    - من الصعب القول بأنه حادث وكذلك محاولة سُمّه في الليلة السابقة ربما تكون مصادفة.
    - لكنك لا تظن ذلك. . . إنك تعتقد أنها جريمة قتل.
    - ألا تعتقد أنت ذلك أيضاً؟
    - نحن، يا صديقي هيستنغز، نفكر بطريقة مختلفة، أنا لا أحاول أن أقرر أحد حلّين مختلفين: إما القتل أو القدر، سيأتي ذلك بعد أن نحلّ لغز الياسمين الأصفر، انظر هناك، شيء ما عند الكلمتين!
    - تقصد الخطين اللذين عن اليمين؟ لا أظنهما مهمين. .
    - ربما هذا لك وحدك، دعنا ننتقل من لغز الياسمين الأصفر إلى لغز التوابل الهندية.
    - السؤال: من الذي سممه؟ ولماذا؟ عندي مئة سؤال تحتاج جواباً، الذي أعد الطعام هو آه لنغ لكن لماذا يرغب في قتل سيده؟ هل هو عضو في جمعية سرية صينية ربما يكون اسمها جمعية الياسمين الأصفر؟ ثم هناك جيرالد باينتر!

    هز بوارو رأسه و قال:
    - نعم، جيرالد باينتر وريث عمه، ثم إنه أكل عشاءه خارجاً ذلك اليوم.
    - ربما كان مطّلعاً على الأمر فحرص أن يأكل عشاءه في الخارج لكي لا يأكل الوجبة.

    شعرت أن تفسيري أشغل بوارو فنظر إليّ نظرة احترام أكثر من قبل و حاولت الاسمرار في نظريتي:
    - عاد متأخراً ورأى النور في مكتب عمه فعلم أن خطته فشلت فدفع الرجل العجوز في موقد الغاز.
    - السيد باينتر كان في صحة جيدة وما كان يمكن أن يسمح بأن يُحرق حتى الموت دون أن يبدي مقاومة، هذا الرأي غير راشد.
    - أظن أننا اقتربنا من الحل، دعنا نرى رأيك في المسألة.

    انتفخ بوارو مغروراً وألقى نحوي ابتسامة ثم قال:
    - هب أنها جريمة قتل، فإن السؤال هو: لماذا اختار القاتل هذه الطريقة ليقتله؟ ربما يكون الجواب: من أجل إخفاء الهوية، لقد احترق الوجه حتى لا يمكنك معرفته. هل تكون جثّة رجل آخر؟ لكن الجواب الراجح هو النفي.

    ثم هناك أشياء أخرى تحتاج تحقيقاً وبحثاً، لكن يجب ألا أسمح لهاجس الكبار الأربعة أن يسيطر على عقلي، ومن الخطر أن يجعل الإنسان نفسه أسيراً لفكرة واحدة، ولقد تمعنت بالخطين المرسومين فوجدتهما بداية الرقم ((4)).

    علا صوتي بضحكة سخرية قائلاً:
    - لله درك يا بوارو!
    - أليس ذلك سخيفاً؟ إنني أرى الأربعة الكبار في كل مكان. .
    ها هو جاب قادم إلينا. .


    الفصل العاشر


    كان مفتش سكوتلاند يارد يقف على الرصيف , و حيانا بشدة عندما قدمنا إليه , و بدت على محياه بسمة عريضة ثم قال:
    - حسنا يا سيد بوارو , لقد أيقنت أنك ستقحم نفسك في هذا اللغز المحير , انه لغز من الطراز الأول , أليس كذلك ؟

    ثم انطلقت بنا سيارة جاب تنهب الأرض نحو كروفت لاندز

    كان البيت أبيض جميلا تحيط به الأشجار و النباتات المتعرشة و فيها الياسمين الأصفر اللامع وكنت أشعر بظلال من الكآبة تخيم على المنزل , و كان صمت الأشجار موحشا , و الورود تتمايل بحزن كأنما ترثي صاحب المنزل

    وكان الياسمين الأصفر يشد العيون ؛ لأن اسمه كان عنوان اللغز .. يبدو أن الرجل كان ذاهلا حين كتب هذا , إنها كلمات لا معنى لها و لا تفيد شيئا

    ابتسم بوارو و قال :
    - ما الذي تراه يا سيد جاب ؟ حادث أم جريمة ؟

    بدا المفتش مرتبكا محرجا أمام سؤال بوارو :
    - إذا نفينا أثر تلك التوابل الهندية و لم يثبت أنها هي السبب في الوفاة فإني أميل إلى الرأي القائل بأنه حادث ؛ لأني أستبعد أسلوب القتل بوضع رأس رجل حي في النار : ألا ترى أنه كان سيملأ البيت صارخا ..

    قال بوارو يحدث نفسه :
    - آه لقد كنت أحمق , أحمق ثلاث مرات , انك أذكى مني يا جاب !

    فوجئ جاب بهذا المديح .. كان بوارو دائما يمدح نفسه و يسخر من غيره , و احمر وجه جاب و كانت شفتاه تتلعثم بكلمات غير مفهومة تشير إلى الريبة و الشكوك في نفسه في صدق بوارو عند مدحه

    دخلنا المنزل متجهين عبر ردهاته إلى الغرفة التي حدثت فيها المأساة : مكتب السيد باينتر , كانت غرفة واسعة , جدرانها تنوء بحمل الرفوف الملأى بالكتب العتيقة

    نظر بوارو عبر الشباك إلى حديقة خلفية فيها حصباء , ثم سأل :
    - هل كان مزلاج الشباك مفتوحا ؟
    - يبدو أن القضية كلها هنا ؛ لأن الطبيب حين خرج أغلق الباب خلفه , و في صباح اليوم التالي وجد مقفلا من الداخل , من الذي أقفله ؟ هل هو السيد باينتر نفسه ؟ آه لنغ أكد أن الشباك كان مغلقا بالمزلاج , و الدكتور كوينتين قال بأنه كان يشك أن الشباك كان مغلقا لكن ليس بالمزلاج , لكنه لم يتأكد , ولو تأكد لأدى ذلك إلى خلل خطير !

    فإذا كانت جريمة قتل فلا بد أن يدخل القاتل من الباب أو الشباك , و إذا كان الشباك فمن الأرجح أن الفاعل شخص من الخارج , و ربما فتحوا النافذة على مصراعيها حين كسروا الباب , و الخادمة التي فعلت هذا تقول بأن النافذة لم تكن مقفلة بالمزلاج , لكنها شاهدة سيئة جدا : لا تتذكر إلا ما يطلب منها أن تتذكره

    - و ماذا عن المفتاح ؟
    - وجد على الأرض بين حطام الباب , و قد يكون سقط من القفل عند الاقتحام ,و ربما أسقطه شخص ما حين دخل , أو يكون دخل من تحت الباب من الخارج
    - يبدو أن كل شيء عندك ((قد يكون ))

    كان بوارو يبحث عن نقطة وسط الركام , و كان وجهه عابسا مقطبا لأنه لم يجد ما يريد , ثم قال :

    - إنني أدور في ظلام دامس , كلما لمحت ومضة سرعان ما تنطفئ !

    جاب- بتجهم - : جيرالد الصغير لديه باعث قوي , أستطيع أن أقول بأنه كان متوحشا متهورا , الفنانون – كما تعرف – لا خلق لهم !

    لم يبد بوارو اكتراثا بهجوم جاب القاسي على الفنانين , لكنه ابتسم ابتسامة ذات مغزى كأنه عرف ما في نفس المفتش و قال له :
    - يا جاب الطيب , هل تظن أنك تستطيع أن تدر الرماد في عيني ؟ إنني على يقين أن أفكارك تتجه بالشك نحو الرجل الصيني لكنك داهية , تريد أن أساعدك و أنت تخادعني !

    انفجر جاب ضاحكا :
    - هكذا أنت دائما يا سيد بوارو , نعم أعترف أني أراهن على الشاب الصيني فهو الذي عبث بالكاري , و إذا كان قد حاول التخلص منه مرة فقد يحاول مرة أخرى
    - لكن السؤال هو : هل حاول ذلك حقا ؟
    - الذي يؤرقني هو الباعث , لعله انتقام همجي لا باعث له !
    - سؤال آخر : هل هناك أثر للسرقة ؟ هل اختفت أشياء ثمينة ؟ جواهر , أموال , أوراق ؟
    - كلا , أعني .. ليس تماما !

    أصغيت بانتباه شديد , وكذلك بوارو . و أكمل جاب موضحا :

    - أقصد لم تحصل سرقة , لكن العجوز كان يكتب كتابا ما , لقد عرفنا عنه هذا الصباح حين وصلت رسالة من الناشرين يسألون عن المخطوطة , حاولت البحث عنها بمساعدة باينتر الصغير فلم نجد شيئا , ربما يكون قد خبأها في مكان ما ..

    لمعت عينا بوارو بالضوء الأخضر الذي كنت أعرفه جيدا و سأل :
    - ماذا كان يسمى ؟ أعني .. هذا الكتاب ؟
    - كما أذكر أن اسمه : (( اليد الخفية في الصين ))

    صفر بوارو و قد أخذته النشوة , ثم قال بسرعة :
    - دعني أر الرجل الصيني آه لينغ

    أرسل جاب في طلب الصيني , فجاء يجر قدميه متثاقلا و ضفيرته تتأرجح على ظهره , كان وجهه جامدا لا تلمح في أثر للعاطفة , خاطبه بوارو :

    - آه لينغ . هل أنت آسف لموت سيدك ؟

    أجاب بلغة إنكليزية ركيكة :
    - طبعا إني آسف جدا , انه رجل طيب !
    - هل تعرف من قتله ؟
    - لا , ولو كنت أعرف لأخبرت الشرطة

    استمرت الأسئلة والأجوبة و الوجه الجامد نفسه لم يتغير , و تحدث آه لينغ عن الكاري الذي طبخه بنفسه , و أوضح أن الطاهي لم يكن له يد بذلك و لم تلمسه أي يد إلا يده هو , و كنت أتساءل : هل كان يعرف أين سيقوده اعترافه ؟ , و قد أبدى دهشته هو أيضا من فتح النافذة , و أخيرا صرفه بوارو قائلا :

    - هذا يكفي يا آه لينغ

    و لكنه ناداه حين وصل إلى الباب :
    - وهل تعرف شيئا عن الياسمين الأصفر ؟
    - لا ,و ماذا يجب أن أعرف ؟
    - و لا عن الإشارة التي كتبت تحتها ؟

    سأله بوارو وهو يميل برأسه نحو الطاولة و قد لمحت عيناه شيئا مكتوبا وسط الغبار المتراكم عليها , فقد كتب بوضوح رقم ((4)) !

    أصاب الرجل الصيني رعب لمحه في وجهه كأنه أصيب برعشة كهربائية , ثم عاد جامد الوجه مرة أخرى و تراجع وهو يكرر إنكاره الشديد

    ذهب جاب يبحث عن باينتر الصغير و تركنا وحدنا , صرخ بوارو :
    - الأربعة الكبار مرة أخرى يا هيستنغز , باينتر كان جوالا كثير السفر , و بلا ريب كانت لديه المعلومات الخطيرة التي تخص الزعيم و العقل المدبر لمجموعة الأربعة الكبار لي شانغ ين !
    - و لكن كيف ؟ ومن ؟
    - صه , هاهم قادمون ..

    كان جيرالد باينتر شابا لطيفا ضعيف الجسم , تزين وجهه لحية بنية لطيفة , و كان يلبس ربطة عنق غريبة , أجاب عن أسئلة بوارو باستعداد تام .. أوضح قائلا :
    - أكلت العشاء في الخارج مع بعض جيراننا من بيت ويشرليز
    - متى عدت إلى البيت ؟
    - حوالي الساعة الحادية عشر , معي مفتاح المزلاج , جميع الخدم كانوا قد ذهبوا للنوم , و ظننت أن عمي نام أيضا . أذكر أنني لمحت ذاك المتسول الصيني صاحب القدم الطرية آه لينغ وهو يتحرك بخفة حول زاوية القاعة , لكنني أظن أنني كنت مخطئا
    - هل تذكر آخر مرة رأيت فيها عمك , أقصد قبل أن تأتي لتعيش عنده ؟
    - آه ! لم أره منذ كنت طفلا في العاشرة عندما تشاجر مع أبي !
    - لكنه استطاع أن يجدك مرة أخرى ببعض الصعوبة , أليس كذلك ؟
    - بلى , و قد رأيت أن إعلان المحامي في الجريدة عن طريق الحظ !

    لم يسأله بوارو أسئلة أخرى , ثم انطلقنا نحو الطبيب كوينتين فكانت روايته هي نفسها دون إضافة تذكر , فقال :

    - يا ليتني أستطيع أن أذكر شيئا عن النافذة , و من الخطورة التفكير في الماضي , فقد يقنع المرء نفسه بوجود أشياء لم تكن موجودة قط .. هذه ناحية نفسية , أليس كذلك يا سيد ؟ لقد قرأت عن أساليبك و أنا معجب بك كثيرا .

    أستطيع أن أؤكد أن الرجل الصيني هو الذي وضع الأفيون في الطعام , و لكنه لن يعترف و لن نعرف نحن أبدا لماذا , لكن وضع رجل في النار لا يليق بشخصية رجلنا الصيني .. هذا ما يبدو لي !

    كان جاب يجري مراقبة حثيثة لكلا الشخصين منذ رؤية الجثة , وحاولت أن أقدم رأيي في بعض جوانب القضية , فقلت :
    - أظن أن جيرالد باينتر لا صلة له بالجريمة

    سخر بوارو و قال
    - أنت دائما تعرف أكثر مما أعرف , وهذه هي المصيبة

    ضحكت قائلا :
    - أيها الثعلب العجوز, لن تتغير أبدا !
    - حتى أكون أمينا يا صديقي فان القضية أصبحت واضحة تماما ما عدا كلمتين : (( الياسمين الأصفر )) , و إني أظن أن هذين الشخصين لا يملكان قدرة على ارتكاب الجريمة معا , عليك أن تقرر : من الذي يكذب ؟..

    كنا نمشي في الطريق , و فجأة اندفع بوارو من جانبي إلى مكتبة مجاورة ثم خرج منها بعد بضع دقائق وهو يحمل طردا , و ما لبث أن انضم إلينا جاب و مضينا نبحث عن مأوى في أحد الفنادق

    و عندما استيقظت في صباح اليوم التالي كان الوقت متأخرا , و نزلت إلى غرفة الجلوس , فوجدت بوارو يذرع الغرفة ذهابا و إيابا بوجه عابس قلق , و حين رآني صاح وهو يلوح بيده :

    - لا تتكلم معي , اصمت , حتى أتأكد أن كل شيء يسير على ما يرام , و أن الرجل قد اعتقل . إن من يكتب رسالة احتضار , يجب أن يكتب شيئا مهما جدا : الياسمين الأصفر , هل تعني شيئا ؟ يجب أن يكون كذلك

    ثم أخرج كتابا صغيرا و قال : هذا الكتاب أخبرني .. اسمع :

    - الياسمين الأصفر : جلسيميني راديكس : مركب جلسيميني قلوي , سم فعال مثل الكونين , الجلسميوم عقار مسكن فعال للجهاز العصبي المركزي , فإذا أخذت منه جرعات كبيرة تسبب الدوار و تضعف القوة العضلية , الموت يكون بسبب شلل مركز التنفس

    هل تذكر يا هيستنغز منذ البداية حين أبدى جاب ملاحظته في دفع رجل حي في النار ؟ علمت بعدها أن الرجل الذي دفع إلى النار كان ميتا !

    - لماذا ؟ لماذا ؟
    - يا صديقي إذا أردت أن تقتل رجل بالرصاص و طعنته بعد الموت و ضربته على رأسه لكان واضحا أن ذلك تم بعد الوفاة , لكن حين يحترق الرأس حتى يصبح رمادا فلا أحد يستطيع تبين سبب الوفاة الصحيح . و الرجل الذي نجا من سم أثناء العشاء لا يجوز أن يتم تسميمه بعد ذلك فورا , من الذي يكذب ؟ هذا هو السؤال .. قررت أن أصدق آه لينغ
    - ماذا ؟ هل جننت ؟
    - هل أنت ذاهل يا هيستنغز ؟ آه لينغ يعرف وجود الأربعة الكبار , كان هذا واضحا , لكنه لم يكن يعرف درجة ارتباط تلك الجريمة بهم حتى هذه اللحظة , لو كان القاتل هو لاستطاع أن يظل جامدا بوجهه بصورة تامة , و لذلك قررت أن أصدقه و ركزت شكوكي على جيرالد باينتر . لقد بدا لي أن رقم ((4)) قد وجد أن التمثل بشخصية ابن الأخ المفقود منذ سنين سهل جدا !
    - ماذا ؟ رقم ((4)) ؟
    - لا يا هيستنغز , حين قرأت مسألة الياسمين الأصفر و ثبت الحقيقة أمام عيني في الحال
    - كما تفعل دائما .. إنها لا تثب أمام عيني أنا لأنك لا تعمل خلاياك الرمادية , من الذي كانت له فرصة اعبث بالكاري الهندي ؟
    - آه لينغ ولا أحد غيره
    - لا أحد ؟ و ماذا عن الطبيب ؟
    - لقد كان هذا فيما بعد
    - فيما بعد , نعم , فعندما ثارت الشكوك في وجبة الكاري الهندي لم يأكل الرجل العجوز منها , و حفظها ليعطيها طبيبه المعالج , و تم استدعاؤه في الحال . الدكتور كوينتين يصل و يتولى أمر الكاري , ثم يعطي مريضه حقنة من الستركنين , و في الحقيقة هي من الياسمين الأصفر , و حين يبدأ فعل الدواء بالسريان يغادر بعد فتح مزلاج النافذة , ثم يعود عن طريق الشباك و يجد المخطوطة و يدفع السيد باينتر في النار

    انه لم يلتفت إلى الصحيفة التي سقطت على الأرض من بين يدي الضحية . لقد عرف باينتر أي دواء أعطي له , و جاهد لكي يتهم الأربعة الكبار بقتله . من السهل على الدكتور كوينتين أن يخلط الأفيون بالكاري و يقدمه للفحص , و في أثناء روايته يذكر مسألة الستركنين عرضا حتى إذا ما تم كشف موضع الإبرة تحت الجلد يكون السبب معروفا سابقا , و في الحال ينقسم الاشتباه بين كونه حادثا و كونه ذنب الرجل الصيني آه لينغ بسبب الكاري الهندي

    - لكن هل يكون الدكتور كوينتين هو رقم ((4)) ؟
    - أجل يجوز بلا شك يوجد طبيب حقيقي اسمه كوينتين و ربما يكون في مكان ما في الخارج , لقد تنكر رقم ((4)) في شخصيته ببساطة , و التنسيق الذي تم مع الدكتور بولثيو من أجل العمل طيلة فترة الجازة تم تنفيذه كله عن طريق المراسلة ..

    في تلك اللحظة دخل جاب ووجهه محمر جدا .. صرخ بوارو :
    - هل أمسكت الرجل ؟
    - لا , لقد عاد بولثيو من إجازته هذا الصباح و تبين أنه قد استدعي ببرقية لا أحد يدري من ذا أرسلها .. الرجل الآخر غادر الليلة الماضية لكننا سنمسك به

    هز بوارو رأسه باستخفاف و حزن وهو يقول :
    - لا أظن ذلك ! ..

    ثم رسم بيده رقم ((4)) على الطاولة بخط كبير بطريقة لا شعورية ..



      الوقت/التاريخ الآن هو الإثنين مايو 20, 2024 9:40 am