الفصل الخامس عشر
بدأت أدرك أن بوارو قد تغير بعد الوفاة المأساوية لمونرو . حتى ذلك الحين كانت ثقته بنفسه التي لا تهتز قد قاومت التجربة , لكن الإجهاد الطويل أخذ منه مأخذا فكان يبدو مهموما كئيبا كأنما أعصابه توشك أن تنهار
في هذه الأيام كان هائجا كأنه قط يتجنب كل نقاش في الأربعة الكبار , لكني كنت أعلم أنه كان نشيطا في المسألة سرا
كان يزوره كثيرا رجال غرباء , لكنه لم يتعطف علي بأي بيان لهذا النشاط الخفي , و فهمت أنه كان يبني دفاعا جديدا و سلاحا مواجهة بمساعدة هؤلاء الرجال ذوي المظاهر المثيرة للاشمئزاز
و ذات مرة – مصادفة – رأيت ما هو مدون في دفتر حساباته المصرفي , و كان قد طلب مني أن أتحقق من أمر ما , فعرفت أنه قد دفع مبلغا كبيرا من المال , كبيرا جدا حتى على بوارو الذي يكسب المال عادة بسرعة , دفعه لرجل روسي ما أطول اسمه !
و مازال يكتم الأمر , كان يكرر دوما قوله : (( إياك ألا تقدر عدوك يا صديقي , تذكر ذلك دائما )) ففهمت أن ذلك كان الشرك الذي يجتهد أن يتجنبه بأي ثمن
و هكذا سارت الأمور حتى نهاية آذار , و في أحد الأيام قال بوارو كلاما أرعبني :
- هذا الصباح يا صديقي عليك أن تلبس أفضل ثيابك , سنزور وزير الداخلية
- حقا ؟ هذا مدهش ! و هل هو الذي استدعاك ؟
- كلا , بل أنا طلبت مقابلته , لعلك تذكر أنني قد أديت له خدمة و هو متحمس بسببها و سوف ينفعني حماسه , و كما تعرف , رئيس وزراء فرنسا السيد ديسحارديو يزور لندن الآن , و سوف يحضر اجتماعنا الصغير هذا الصباح
اللورد سيدني مراوثر وزير الداخلية رجل معروف مشهور , في الخمسين من عمره , ذو أسلوب مرح و عيون رمادية لاذعة , استقبلنا بتلك الطريقة المرحة الأنيسة , و كان في البيت رجل طويل نحيف يقف و ظهره إلى الموقد , ذو لحية سوداء ووجه رقيق
قال كراو ثر :
- سيد ديساجرديو , هدا هو السيد هيركيول بوارو , لعلك سمعت به
انحنى الرجل الفرنسي و مد يده يصافحه , و قال بفكاهة :
- أجل قد سمعت بالسيد بوارو , و من ذا لا يعرفه ؟
احمر وجه بوارو من البهجة , قال :
- هدا لطف منك سيدي !
ثم تقدم رجل من زاوية بجانب خزانة كتب طويلة . . كان ذاك هو السيد إنغليز صديقنا القديم , و صافحه بوارو بشدة . قال كراوثر :
- و الآن , سيد بوارو , نحن في خدمتك , لقد فهمت أن لديك معلومات في غاية الأهمية تريد إطلاعنا عليها
- أجل يا سيدي . . . في هذا العالم اليوم منظمة واسعة في الجريمة رؤوسها أربعة أفراد اسمهم الأربعة الكبار , رقم ((1)) رجل صيني اسمه لي شانغ ين , رقم ((2)) المليونير الأمريكي آبي ريلاند , رقم ((3)) امرأة فرنسية , أما رقم ((4)) فلدي من الأسباب ما يدعوني الى الاعتقاد بأنه الممثل الإنكليزي الغامض كلود داريل
و هؤلاء الأربعة قد اتحدوا لكي ينشروا الفوضى و يقوضوا النظام الاجتماعي القائم في العالم و يستبدلوا به نظاما استبداديا تكون لهم من خلاله السيطرة
همس الفرنسي :
- مستحيل أن يتورط ريلاند في شيء كهذا ! الفكرة خيال بالتأكيد
استمع إلي يا سيدي أسرد عليك بعض أفعالهم
كان الوصف الذي قدمه بوارو ساحرا , و لقد كنت أعرف كلامه تفصيلا لكنه أثارني من جديد و أنا أسمع وصف مغامرتنا الخطرة !
نظر السيد ديسجاردريو في صاحبه كراوثر بعد أن أنهى بوارو حديثه , و أجاب كرواثر على النظرة :
- نعم يا سيد ديسجاردريو يجب علينا أن نقر بوجود الأربعة الكبار , لقد سخرت سكوتلانديارد من لك في البداية , و زعمت الشرطة أن السيد بوارو يبالغ كثيرا , غير أني شخصيا أشعر أن كلامه صحيح , و قد أجبرت الشرطة و سكوتلانديارد على التسليم بأكثر من هده الفرضيات
بين بوارو لهما عشر نقاط بارزة طلب مني أن لا أعلنها , و تضمنت الكوارث التي أصابت الغواصات و سلسلة حوادث الطائرة و هبوطها الإجباري , و حسب كلام بوارو كانت جميعا من فعل الأربعة الكبار , و شهد بان عندهم أسرار علمية لا يعرفها العالم كله , و هذا جعل رئيس وزراء فرنسا يسأل بوارو سؤالا كنت أنتظره :
- قلت بأن العضو الثالث من هذه المنظمة امرأة فرنسية , هل تعرف اسمها ؟
- انه اسم مشهور جدا يا سيدي , اسم ذائع الصيت , رقم ((3)) ليس إلا مدام أوليفير !
و لما ذكر اسم العالمة الكبيرة خليفة المدام كوري قفز السيد ديسجاردريو من كرسيه , احمر وجهه و قال :
- مدام أوليفير ؟ مستحيل ! هذا سخف ! ان الذي تقوله إهانة . .
هز بوارو رأسه بلطف لكنه لم يجبه . نظر ديسجاردريو إليه مذهولا لبضع دقائق , ثم التفت إلى وزير الداخلية و ضرب على جبينه بصورة ذات دلالة , قال :
- السيد بوارو رجل عظيم , لكن حتى العظماء يصيبهم الهوس أحيانا , هذا معروف , أليس كذلك يا سيد كراوثر ؟
صمت وزير الداخلية قليلا ثم أجابه بلسان ثقيل :
- لا أدري , كنت دائما و ما زلت أثق بالسيد بوارو , لكن هذا جدير بالملاحظة !
- ديسجاردريو : لي شانغ ين أيضا , من ذا سمع به من قبل ؟
و جاء الصوت من السيد إنغليز على غير توقع :
- أنا سمعت . .
حدق إليه الرجل الفرنس ثم نظر بهدوء كأنه وثن صيني , أوضح وزير الداخلية :
- السيد إنغليز هو أعظم مرجع لدينا في شؤون الصين
- إنغليز : لقد ظننت أنني الرجل الوحيد في إنكلترا الذي يعرف عنه , إلى أن جاءني السيد بوارو . لا تخطئ يا سيد ديسجاردريو , في الصين رجل واحد ذو أثر اليوم : لي شانغ ين , و قد يكون أذكى دماغ في العالم اليوم على الإطلاق
جلس السيد ديسجاردريو كالمصعوق , لكنه ملك قواه و قال :
- ربما يصح شيء مما تقول يا سيد بوارو , و لكنك مخطئ بالتأكيد فيما يتعلق بمدام أوليفير . . إنها ابنة فرنسا المخلصة للعلم !
هز بوارو كتفيه استهجانا و لم يجب
ران الصمت بعض الوقت , ثم نهض صديقي و عليه ملامح الوقار :
- هذا كل ما أردت قوله يا سادة , إني أحذركم , دار في خلدي أنكم ربما لا تصدقونني , لكنكم قد تصبحون أكثر حذرا , إن كلماتي ستدخل في الأعماق و كل جديد سيؤكد لكم الحقيقة , كان ضروريا أن أتحدث الآن إليكم , فلعلي لا أستطيع لقاءكم بعد هذا اليوم !
- تقصد . . ؟
- أقصد أنني أصبحت في خطر دائم مند فضحت اسم رقم ((4)) , سوف يسعى لتدميري بأي ثمن , و ليس اسمه ((المدمر)) من فراغ أو ضعف يا سادة . أسلم عليكم , و إليك يا سيد كراوثر هذا المفتاح و هذا الظرف , كتبت كل ملاحظاتي عن القضية و أفكاري حول أحسن السبل لمواجهة الخطر الذي قد يعم العالم يوما ما و وضعتها في خزانة , فإن قتلت يا سيد كراوثر فأنت صاحب الحق للتصرف بتلك الأوراق , يوما طيبا !
خرجنا و خرج إنغليز معنا , و قال بوارو و نحن نسير :
- ما خاب ظني في المقابلة لم أتوقع إقناع ديسجاردريو , لكنني ضمنت أنني اذا مت فإن معرفتي لا تموت , لقد أقنعت واحدا من اثنين . . . لا بأس !
- إنغليز : إنني معك كما تعرف , و وسوف أسافر إلى الصين إن نجوت بنفسي
- هل هدا عمل حكيم ؟
- لا , لكنه واجب , و علي أن أعمل ما أستطيع
- آه إنك رجل شجاع , و لو لم نكن في الشارع لعانقتك
ظننت أن إنغليز بدا مطمئنا . . و هدر قائلا :
- قد لا أكون في خطر و أنا في الصين أكثر من الخطر الذي تواجهه أنت في لندن
- ربما , أرجو أن لا يذبحوا هيستنغز أيضا . . إن هذا يزعجني كثيرا !
قاطعت حديثهما اللطيف لأقول بأنني لا أعتزم ترك نفسي تدبح , و بعد ذلك بقليل تركنا إنغليز , سرنا بصمت بعض الوقت لكن بوارو قطعه و قال عبارة مفاجأة تماما , قال :
- أظن أن علي أن أقحم أخي في هذه القضية
- أخوك ؟ لم أعرف أن لك أخا من قبل
- يا هيستنغز , ألا تعلم أن رجال التحري جميعا لهم إخوة ؟
بوارو له طريقة عجيبة أحيانا تجعل المرء في حيرة مايدري أجاد هو أم هازل ! سألته و أنا أحاول أن أوافقه :
- و ما اسم أخيك ؟
- أشيلي , يعيش قرب منتجع صحي في بلجيكا
- و ماذا يعمل ؟
- لا شيء ؛ لأنه مريض , لكن قدرته على الاستنتاج ليست دون قدرتي
- و هل يشبهك ؟
- أجل لكنه ليس أنيقا و يحلق شاربه
- أكبر منك ؟
- لقد صادف أنه ولد في نفس اليوم الذي ولدت فيه !
صحت مندهشا : توأمان !
- تماما يا هيستنغز , إنك تقفز إلى النتيجة الصحيحة بدقة ! ها نحن قد عدنا إلى البيت ثانية , دعنا نشتغل في الحال بتلك القضية السهلة , قضية عقد الدوقة
لكن قدر لقضية عقد الدوقة أن تتأجل بعض الوقت , فقد كان عندنا قضية من نوع آخر , فما إن دخلنا إلى البيت حتى جاءت السيدة بيرسون و أخبرتنا أن ممرضة اتصلت و أنها تريد رؤية بوارو
دخلنا فوجدناها تجلس على مقعد كبير تقابل الشباك . . امرأة جميلة في ربيع العمر , عليها زي كحلي , كرهت الحديث في المسألة قليلا لكن بوارو طمأنها فأخذت تحكي قصتها :
- أرسلني مستشفى لارك سيتر هود لكي أمرض عجوزا في هيرتفوردشير اسمه السيد تيمبلتون , و كان بيته يثير البهجة و أهله فرحون , الزوجة : مدام تيمبلتون أصغر كثيرا من زوجها , و له ابن من زواجه الأول يعيش هناك , و لكنه لم يكن على وفاق تام مع زوجة أبيه , و هو لم يكن مختلا تماما و لكنه من النوع البطيء التفكير
حسنا . . لقد كان العجوز مريضا , و بدا لي مرضه مند البداية غامضا , و في ذلك الوقت بدا سليما معافى , ثم – فجأة – أصابته نوبة معوية مع ألم و تقيؤ , لكن طبيبه بدا راضيا عن حالته و لم أستطع أن أقول شيئا , بيد أني لم أملك نفسي من التفكير في حالته ثم . .
سكتت و احمر وجهها , و قال بوارو :
- حدث شيء أثار شكوكك ؟
- نعم
ثم سكتت و قد بدا أن الاستمرار صار صعبا عليها . .
- عرفت أن الخدم ينقلون كلاما أيضا . .
- عن مرض السيد تيمبلتون ؟
- آه ! كلا , بل عن هدا الشيء الآخر !
- السيدة تيمبلتون ؟
- نعم
- ربما مع السيدة تيمبلتون مع الطبيب ؟
كان بوارو ذا حاسة خارقة في هده الأمور . . . ألقت الممرضة عليه نظرت شكر و أكملت :
- كانوا ينقلون كلاما , ثم ذات يوم رأيتهما بعيني في الحديقة . .
توقفت المسألة هكذا ,لقد كانت زبونتنا في كرب شديد لأنها انتهكت الحشمة , فلم نسألها مادا رأت حياء , لكنها حتما قد رأت ما فيه برهان
- النوبة ساءت و ساءت , الدكتور تريفز زعم أن كل مايصيب العجوز طبيعي متوقع و أنه ربما لا يعيش طويلا , لكنني لم أر شيئا من هدا أبدا من قبل طوال خبيرتي في التمريض , بل بدا لي أنه شكلا من . .
أطرقت مرة أخرى و هي مترددة , فتدخل بوارو مساعدا :
- التسمم الزرنيخي . .
هوت رأسها موافقة
- و المريض قال بعد ذلك شيئا عجبا , قال (( سيقتلونني أربعتهم ! سيقتلونني ! ))
- ماذا ؟!
- كانت هذه هي كلمته يا سيد بوارو , كان يكابد ألما عظيما آنذاك و لا يعي – على الأغلب – ما يقول
- مذدا تظنين معنى قوله (( أربعتهم )) ؟
- لست أدري , لعله كان يقصد زوجته و ابنه و الطبيب و الآنسة كلارك صاحبة زوجته , ربما كان يتوهم أنهم جميعا متحدون عليه
- نعم , ربما . . و ماذا عن الطعام ؟ ألم تأخذي حذرك في شأنه ؟
- إنني دائما أفعل ما أستطيع لكن السيدة تيبلتون تلح أحيانا كي تطبخه هي بيدها , ثم أحيانا أكون في عطلة
- تماما , و أنت لست على يقين من الأمر كي تبلغي الشرطة
أظهر وجه الممرضة خوفها عند هدا السؤال . .
- أصابت السيد تيمبلتون نوبة بعد شربه صحنا من المرق , فأخذت حثالة المرق و أحضرتها معي , لقد ألغيت اليوم زيارة إلى أمي المريضة من أجله . .
أخرجت قنينة ملئت سائلا قاتما و أعطتها بوارو :
- أحسنت يا آنسة , سوف نحللها الآن , إذا رجعت بعد ساعة فنكون قد حسمنا شكوكك
و كتب بوارو اسمها و بعض المعلومات عن مؤهلاتها ثم سطر رسالة و بعثها مع قنينة المرقة , و بينما كنا ننتظر النتيجة كان بوارو يسلي نفسه بالتحقيق في أوراق الممرضة مما أدهشني , فقال :
- أنا أعمل جيدا يا صديقي كي أكون حذرا , لا تنس أن الأربعة الكبار يتعقبوننا
عرف بوارو أن اسمها مابل بالمر , كانت تعمل في مهد لارك , ترى لماذا أرسلت إلى تيمبلتون ؟ قال و عينيه تلمع :
- حسنا و الآن هاهي بالمر قد رجعت و هاهو بيان التحليل . .
- هل فيه زرنيخ يا سيد بوارو ؟
- لا !
دهشت أنا و الممرضة كثيرا , و أكمل بوارو :
- ليس فيه زرنيخ لكن فيه أنتيمون , سنذهب حالا إلى هيرتفوردشير , أدعو الله ألا نكون متأخرين
لقد قرر بوارو أن يقدم نفسه كرجل تحر , لكن حجته الظاهرة أنه أتى يسأل مدام تيمبلتون عن خادمة كانت تعمل عندها , و يزعم أن لها علاقة بسرقة الجواهر
وصلنا بيتهم المسمى (( إلمستيد ))في ساعة متأخرة , بعدما سمحنا للممرضة أن تسبقنا بعشرين دقيقة حتى لا تثار شكوك حول وصولنا سوية
السيدة تيمبلتون امرأة طويلة عبوس يبدو في عينيها القلق
استقبلتنا و لاحظت مسحة من الخوف سرت على وجهها عندما أعلن بوارو عن هويته . لكنها أجابت سؤاله في شأن الخادمة بجلد , ثم بدأ بوارو حديثه في تاريخ طويل لقضية تسميم وصفتها امرأة مذنبة , عيناه لم تغادر وجهها وهو يتحدث و قد حاولت هي كبت هيجانها الدي كان يزيد , ثم فجأة , أسرعت من الغرفة بعذر ضعيف . .
لم نترك وحدنا طويلا , فقد دخل علينا رجل قوي الجسم شاربه أحمر خفيف و على أنفه نظارة , قدم نفسه قائلا :
- دكتور تريفيز . طلبت مني مدام تيمبلتون أن أعتذر لكما فهي في حالة سيئة , إنها متوترة بسبب قلقها على زوجها و قد نصحت لها أن تذهب للنوم حالا , لكنها ترجوكما أن تبقيا ! لقد سمعت بك يا سيد بوارو و نريد أن ننتفع بحضورك . . ها هو ميكي . .
و دخل علينا فتى بطيئ الحركة , يدل وجهه المدور و حاجباه المرتفعان على حماقة و دهشة دائمة , ابتسم بصورة عجيبة وهو يصافحنا . يبدو أنه كان ذلك الابن (( بطيء التفكير )) !
و قمنا جميعا لوجبة العشاء , و عندما انصرف الدكتور ليأتي ببعض الطعام , صارت ملامح وجه الفتى متغيرة بصورة مخيفة : مال للأمام وهو يحدق ببوارو , و قال وهو يهز رأسه :
- أنت جئت من أجل أبي , أعرف . . أعرف أشياء كثيرة , لكن لا أحد يظنني أعرف , أمي ستفرح حين يموت أبي , وتستطيع أن تتزوج الدكتور تريفيز , إنها ليست أمي . . إني لا أحبها
كان كل شيء مرعبا , و من حسن الحظ أن عاد الدكتور تريفيز قبل أن يلفظ بوارو كلمة معه , و كان علينا أن ننشغل بحديث آخر
و فجأة أسند بوارو ظهره إلى الكرسي و جعل يتأوه ووجهه يتلوى من الألم . . صرخ الدكتور :
- سيدي العزيز , ماذا أصابك ؟
- تشنج مفاجئ . . إنني معتاد عليه . لا , لا أحتاج إلى مساعدة منك يا دكتور , هل يمكن أن أستريح في الطابق الأعلى ؟
قبل طلبه فورا و صحبته إلى الأعلى حيث سقط على سريره و هو يئن بشدة , لقد ذهلت قليلا لكني فهمت بسرعة أن بوارو كان يمثل و أن غايته أن يترك وحده في الطابق الأعلى بجوار غرفة المريض , و لقد كنت مستعدا حين قفز واقفا في اللحظة التي كنا وحدنا :
- أسرع يا هيستنغز , الشباك . . . اللبلاب هناك في الخارج , نستطيع أن ننزلق عليه إلى الأسفل لنهرب قبل أن يشكوا في غيابنا !
- ننزل إلى أسفل ؟
- أجل , لا بد أن نخرج من هنا حالا , هل رأيته في العشاء ؟
- الطبيب ؟
- لا , تيمبلتون الفتى , عادته العجيبة في الخبز ! ألا تذكر ما قالته مونرو لنا ؟ قالت بأن كلود داريل كان فيه عادة تفتيت الخبز على الطاولة ليأكل لب الرغيف , إنها مؤامرة محكمة يا هيستنغز , و هذا الفتى المعتوه هو عدونا الخبيث . . رقم ((4)) . . . أسرع !
انزلقنا على نبات اللبلاب و نزلنا بسكون و بالكاد أدركنا قطار الساعة 8,34 الأخير الذي أوصلنا إلى البلدة في الساعة الحادية عشرة مساء
قال بوارو متأملا : مؤامرة ! ترى كم واحدا منهم شارك فيها ؟ أشك في أن أسرة تيمبلتون جميعا ليسوا سوا عملاء للأربعة الكبار , هل أرادوا هكذا بسهولة أن نقع في شركهم أم أنها كانت أكثر مكرا ؟ هل كانوا . . ماذا ؟ إنني أتساءل !
ظل يفكر كثيرا . .
و عندما وصلنا إلى مسكننا أبقاني عند باب غرفة الجلوس :
- تنبه يا هيستنغز , عندي شكوك , دعني أدخل أولا . .
دخل , ثم دهب حول الغرفة كأنه قطة غريبة بحذر و هدوء تام , و راقبته قليلا و أنا في مكاني جانب الحائط , قلت و قد نفذ صبري :
- كل شيء على ما يرام يا بوارو
- عسى أنه كذلك لكن دعنا نتأكد
- سأشعل نارا و أدخن بغليوني . . هاهي أعواد الثقاب قد تركتها أنت هذه المرة و لم تعدها إلى مكانها , و هو الأمر الذي كنت تعيبه علي
مددت يدي , فسمعت صرخة بوارو , قفز نحوي , لمست يدي علبة الكبريت . . ثم . . وميض من اللهب الأزرق . . ضربة على الأذن , و ظلام !
وعيت لأجد صديقنا الدكتور ريدغوي يجثو على ركبتيه فوقي تلمح في وجهه الطمأنينة , قال :
- كن هادئا , لقد وقع حادث , أنت بخير
- و بوارو ؟
- أنت في بيتي اطمئن
شعرت خيفة , هروبه من الجواب ألقى في نفسي خوفا رهيبا . .
- بوارو ؟ أين بوارو ؟
أدرك أن علي أن أسمع جوبا فقال :
- لقد نجوت بمعجزة , أما بوارو فلم ينج
انفجرت صرخة من بين شفتي :
- لم يمت ؟ لم يمت ؟
حنى ريدغوي رأسه . . و جلست أنا و قلت بضعف :
- ربما يكون بوارو قد مات . . لكن روحه . . ستعيش ! سأتابع عمله , الموت للأربعة الكبار ! ثم سقطت على ظهري فاقدا الوعي
الفصل السادس عشر
لا أحتمل الكتابة عن تلك الأيام التي حدثت من شهر آذار . . بوارو مات ! لقد كان في علبة الكبريت لمسة شيطانية , كان محتما أن تفلت أعوادها غير المرتبة اهتمامه فيسرع لكي ينسق أعوادها المبعثرة , و هكذا سببت اللمسة الانفجار !
الحق أنني أنا الذي عجلت في الكارثة , و هدا ملأني ندما لا ينفع و لا يدفع !
قال الدكتور ريدغوي بأن نجاتي كانت معجزة , لكن ارتجاجا طفيفا أصابني , و بعد أن استرجعت وعيي مشيت مترنحا إلى الغرفة المجاورة قبل حلول ظلام اليوم الذي تبع الحادث , و رأيت بحزن عميق تابوتا من خشب الدردار ترقد فيه بقايا واحد من أروع الرجال الذين عرفتهم !
و منذ أول لحظة عاد فيها وعيي كان عندي هدف واحد . .الانتقام لموت بوارو و أن أصيد الأربعة الكبار بلا رحمة . . و ظننت أن الدكتور ريدغوي يفكر مثلي , و لكن الطبيب الطيب بدا فاترا و لم أدر لماذا ؟ . . (( عد إلى أمريكا الجنوبية )) , هكذا ظل ينصحني . . لماذا ؟ لقد قال بأن بوارو الخارق قد فشل فهل أنجح أنا ؟
لكنني أصررت و تجاهلت كل تشكيك في قدراتي . . لقد عملت مع بوارو طويلا فعرفت منه أسلوبه , و شعرت بالقدرة التامة على متابعة العمل الذي رسمه . . لقد قتل صديقي قتلة قاسية , فهل علي أن أؤوب إلى أمريكا دون جهد لإحضار قتلته أمام العدالة ؟
قلت هذا كله و أكثر منه لريدغوي الذي كان ينصت لي قبل أن يعلق قائلا :
- مهما يكن فإني أنصحك , و لو كان بوارو نفسه بيننا لكان ألح عليك بالعودة , أتوسل إليك باسمه يا هيستنغز أن تترك هذه الفكرة المتهور و ترجع إلى مزرعتك !
و ما زلت على جوابي فلم يقل شيئا و هز رأسه بأسف !
و مضى شهر استعدت فيه عافيتي و عند نهاية شهر نيسان سعيت و عقدت لقاء مع وزير الداخلية فكان رأي السيد كراوثر يذكرني بكلام الدكتور ريدغوي , ففي حين كان يشكر لي كان يرفض عرضي بلطف و حذر , أوراق بوارو صارت في حوزته و قد أكد لي بأنه سيتخذ كل عمل جائز لمواجهة الخطر الذي يدنو و يقترب
و مع هذا العزاء البارد حملت على الاقتناع , أنهى السيد كراوثر اللقاء بأن ألح علي أن أعود إلى أمريكا . . لقد رأيت كل المسألة لا ترضيني . . و الآن يجب أن أصف جنازة بوارو
كان احتفالا وقورا مهيبا و كلمات الإجلال التي قيلت كانت فخمة جزيلة , لقد جاء المعزون من أماكن شتى و توافدوا إلى المكان الذي اختاره صديقي لنفسه . . بلد إقامته ! لقد غلبني الحزن و أنا أقف عند جانب المقبرة و ذكرت جميع تجاربنا المختلفة و الأيام السعيدة التي عشناها معا
في بداية شهر أيار رسمت خطة الحملة : لن أفعل خيرا من اتباع خطة بوارو في الإعلان من أجل جذب كلود داريل , و نشرت إعلانا في عدد من الصحف الصباحية , و كنت أجلس في مطعم صغير في سوهو و أرى تأثير الإعلان من خلال قراءتي للصحف
فجأة صدمتني فقرة صغير صدمة عنيفة . . (( اختفى السيد جون إنغليز من السفينة (( شنغهاي )) بعد مغادرتها ميناء مرسيليا بقليل , و رغم أن الجو كان هادئا تماما لكن يخشى أن الرجل المسكين قد سقط من السفينة )) , و انتهت الفقرة بحديث مقتضب حول خدمة السيد إنغليز الطويلة و المميزة في الصين
كان الخبر غير سار , أدركت أن وراء مقتل إنغليز دافعا شريرا , لم أصدق أبدا النظرية القائلة بأنه مات بحادث , قطعا كان موته من فعل الأربعة الكبار الملعونين !
و بينما كنت مذهولا من المصيبة أقلب المسألة كلها في دماغي داخلني خوف من سلوك الرجل الجالس مقابلتي و لم أكن قد أعرته كبير اهتمام . كان نحيفا أسمر متوسط العمر شاحب البشرة ذا لحية خفيفة , جلس مقابلي بهدوء تام حتى أنني لم أحس بقعوده , لكنه الآن صار يفعل فعلا غريبا قطعا : مال إلى الأمام و نثر عمدا أربع كومات من الملح حول حافة صحني , قال بصوت كثيب :
- اسمح لي : إنهم يقولون أن تقديم الملح هو نوع من المواساة للغريب , أرجو أن تكون فهمت . .
صنع – في دلالة مؤكدة – عند صحنه ما فعله لي , إن الرمز ((4)) كان واضحا !
نظرت إليه بإمعان , لم أستطع أن أرى أنه يشبه تيمبلتون الصغير و لا جيمس الخادم أو أيا كان من الشخصيات الأخرى المختلفة التي صادفتنا , لكنني كنت جازما بأنني أواجه رقم (( 4)) المروع نفسه , الصوت كان فيه شبه ضعيف من صوت الرجل الغريب ذي المعطف المزرر الذي زارنا في باريس
نظرت حولي مترددا حول رد فعلي المناسب , و بدا أنه يقرأ أفكاري , تبسم وهز رأسه بلطف و قال :
- لا أنصحك بهذا , تذكر ما حدث من العجلة في باريس , طريق هروبي مفتوحة تماما , أنت تضمر الشر قليلا يا كابتن هيستنغز . .
قلت و أنا أختنق من الغضب :
- تبا أيها الشيطان !
- غضبان . . أنت تافه غضبان , لا بد أن صاحبك الراحل أخبرك بأن الرجل الذي يظل هادئا يجني دائما منفعة عظيمة . .
صحت فيه :
- تجرؤ أن تتكلم عن الرجل الذي قتلته بتلك الطريقة القذرة . . .
قاطعني قائلا :
- جئت هنا من أجل هدف سلمي , لكي أنصحك أن تعود إلى أمريكا الجنوبية فورا , إن فعلت ذلك فستنتهي المسألة بقد ما يعني ذلك للأربعة الكبار و لن نؤذيك أنت و لا زوجتك , أعدك بذلك
ضحكت بازدراء :
- و إذا رفضت ؟
- هذا ليس أمرا , دعنا نقل بأنه . . تحذير , التحذير الأول , أنصحك أن لا تضيعه . .
ثم نهض و انسل خارجا بسرعة نحو الباب قبل أن أقدر نيته , لحقته لكن حظي كان تعيسا , فقد اصطدمت برجل بدين سد الطريق , و لما فككت نفسي منه كان طريدي يجتاز مدخل الباب , و قابلني نادل يحمل كومة كبيرة من الصحون صدمني أيضا دون إشعار , و ما إن وصلت الباب حتى كان الرجل قد اختفى !
كان اعتذار النادل سمجا , و الرجل البدين جلس بهدوء على طاولة و طلب غذاء , ربما كان كلا الحادثين مصادفة , لكنني كنت أعرف جيدا أن عيون الأربعة الكبار في كل مكان !
لقد شدني تحذير الرجل , لكنني سأعمل أو أموت من أجل قضية صالحة
و لم إجابات مفيدة عن الإعلانات , إنما وردتني إجابتان من ممثلين عملا مع داريل قليلا و لم يكونا يعرفانه عن قرب و لم يذكرا هويته أو مكانه !
مرت عشرة أيام و لم تظهر علامة أخرى من الأربعة الكبار , و كنت أقطع هايد بارك و أنا حيران أفكر , ناداني صوت امرأة جاهر , يبدو أنها أجنبية . .
- أنت كابتن هيستنغز , أليس كذلك ؟
توقفت سيارة أجرة فاخرة جنب الرصيف , و أطلت منها امرأة تلبس ثوبا أسود و عقدا من اللؤلؤ رائعا . . عرفتها : الكونتيسة فيرا روساكوف . . جندية الأربعة الكبار !
كان لبوارو ولع خفي بالكونتيسة , شيء ما فيها جذب الصغير , كان في لحظات الحماس يقول بأنها امرأة تساوي ألفا من النساء ولو كانت تعمل ضدنا . .
روساكوف : آه , لا تعبر الشارع , عندي شيء هام جدا و أريد أن تسمعه , و إياك أن تسعى إلى اعتقالي لأن ذلك سيكون غباء منك , أنت غبي لأنك عازم ألا تطيع تحذيرنا , و هذا هو تحذيرنا الثاني جاءك معي : (( غادر إنكلترا في الحال , قعودك لا يفيد , لن تجني شيئا هنا أبدا ))
- كلكم مهتمون بإخراجي من البلد , عجبا !
هزت روساكوف رأسها استهجانا . .
- أنا أظن أنك أحمق , كنت سأتركك هنا تعمل بسعادة , لكن الرؤساء يخافون كلمة منك ربما تساعد أولئك الذين هم أكثر ذكاء منك . .
كظمت غيظي , كلمتها هذه أزعجتني لأن فيها إشارة استخفاف بي . قالت :
- هذا ما سوف يكون , من السهل أن ينفوك , لكنني أشفق على الناس أحيانا , إنني أناشدك , إن لك زوجة صغيرة حسناء في مكان ما , أليس كذلك ؟ و لسوف يسعد الرجل الصغير في قبره أنك لم تمت , لقد كان يعجبني , كان ذكيا ! لو لم تكن قضية أربعة مقابل واحد لعظمناه كثيرا . . لقد كان بوارو أستاذي , لقد أرسلت إكليلا إلى الجنازة إعلانا بإعجابي , إكليلا كبيرا من الورود القرمزية التي أحبها
استمعت إليها في صمت و حقد و ما زالت تتكلم :
- أنت كالبغل , حين يحرك أذنيه و يرفس , حسنا , فقد أبلغتك تحذيري فتذكر , الإنذار الثالث سيأتي من يد المدمر . .
و أشارت إلى السائق فانطلقت السيارة , لاحظت رقمها لكن لا أرجو أملا من هذا ؛ الأربعة الكبار لا يتركون هذه التفصيلات
ذهبت إلى البيت هادئا قليلا , لقد عرفت من السيل الجارف نم كلماتها حقيقة واحدة : حياتي في خطر ! لا , لن أتخلى , بل أمضي بحذر شديد و أحترس . .
و بينما أنا أعرض كل هذه الحقائق و أدرس خير طريقة للعمل رن الهاتف :
- نعم .. مرحبا .. من يتكلم ؟
- مستشفى سانت جيلز , عندنا رجل صيني طعن بالسكين و أحضر إلينا , لن يعيش طويلا , لتصلنا بك لأننا وجدنا في جيبه قصاصة ورق عليها اسمك و عنوانك . .
- سأحضر فورا
كنت مذهولا !
مستشفى سات جيلز بجانب أحواض السفن , إذن فلعل الصيني يكون قد خرج لتوه من سفينة . . أم أن الأمر كله فخ ؟ مهما يكن فربما يكون لشانغ ين يد فيما يجري ! لن تضرني زيارة المستشفى , عسى أن يبوح لي الصيني المحتضر بشيء أستنير به , لكنني سأتكلف الحماقة و أنا – في الواقع – يقظان
وصلت المستشفى , و بعد أن عرفت بنفسي قادتني بعض الممرضات فورا إلى جناح الحوادث
رأيت الصيني راقدا بدون حركة , جفناه مغمضان و صدره ينبض نبضا ضعيفا يدل أنه مازال يتنفس . وقف عنده الطبيب و أصابعه تجس النبض , همس :
- كأنه ميت , هل تعرفه ؟
- لا , لم أره من قبل أبدا
- إذن ما شأن اسمك و عنوانك في جيبه ؟ أنت كابتن هيستنغز , أليس كذلك ؟
- بلى , و لكنني لا أدري . .
- عجبا ! أوراقه تثبت أنه كان خادما عند رجل يدعى إنغليز , موظف مدني مسرح , و أنت تعرفه , أليس كذلك ؟
- لقد رأيت خادم إنغليز من قبل لكني لا أستطيع أن أميز صينيا عن آخر , لابد أنه كان مع إنغليز في طريقه إلى الصين و بعد حصول الكارثة رجع هنا برسالة قد تكون خاصة بي , يجب أن أسمع الرسالة .. سألت الطبيب :
- هل هو في وعيه ؟ ألا يستطيع الكلام ؟ السيد إنغليز كان صديقي القديم و لعل هذا المسكين قد أحضر لي رسالة منه , إذ يعتقد أن السيد إنغليز قد اختفى عن ظهر سفين قبل عشرة أيام . .
- إنه واع لكن ربما لا يستطيع النطق , فقد دما كثيرا , أستطيع أن أعطيه حقنة منشطة لكننا عملنا كل ما بوسعنا
و حقنه الطبيب بإبرة تحت الجلد و بقيت عنده راجيا أن يتكلم كلمة واحدة أو إشارة ربما تكون هامة عندي , ولكن الدقائق مرت و لم يتحرك
و فجأة , خطرت ببالي فكرة مقلقة . .
ألم أكن قد وقعت في فخ ؟ فليكن هذا الرجل انتحل شخصية خادم إنغليز و أنه في الحقيقة جندي للأربعة الكبار , ألم أقرأ مرة أن كهنة في الصين يقدرون أن يتظاهروا بالموت ؟ أو أبعد من ذلك : لعل لي شانغ ين قد أمر جماعة من جنوده الذين يحبون أن يتظاهروا بذلك . . لا بد أن أحذر . .
في اللحظة هذه تحرك الرجل في سريره , فتح عينيه , همس كلاما و عينه علي , لم يقم بأي حركة تدل أنه عرفني , و لكني أدركت حالا أنه يريد أن يكلمني , وسواء كان صديقا أو عدوا , ينبغي أن أستمع إليه
انحنيت فوق السرير لكنني لم أفهم شيئا من صوته المتهدج , سمعت كلمة (( هاند )) و لم أفهمها , ثم سمعت كلمة أخرى (( لارغو )) , حدقت إليه بذهول و سألته :
- (( هاندلز لارغو )) ؟
طرف أجفانه بسرعة كأنه وافق , ثم أضاف كلمة إيطالية :
- (( كاروزا )) ؟
ثم تراجع فجأة . دفعني الطبيب جانبا , كان كل شيء قد انتهى , فالرجل قد مات !
خرجت مرة أخرى إلى الهواء و أنا في حيرة . . إذا كنت أذكر (( كاروزا )) بشكل جيد فمعناها باص . . ماذا وراء هذه الكلمات القليلة ؟ الرجل صيني و ليس إيطاليا فلماذا يتكلم الإيطالية ؟ فإن يكن هذا خادم إنغليز فلا بد أن يعرف الإنكليزية . . الأمر عجيب , يا ليت بوارو عندي لكي يحل هذه المشكلة !
و دخلت بعد أن فتحت الباب و صعدت ببطء إلى غرفتي , فوجدت على الطاولة رسالة , فتحتها فتحجرت في مكاني في الحال , كان بلاغا من شكرة المحامين , الرسالة تقول :
(( سيدي العزيز ,
حسب وصية موكلنا السيد هيركيول بوارو نرسل إليك هذه الرسالة المرفقة التي وصلتنا قبل اسبوع من وفاته و فيها أنه يجب علينا أن نرسلها إليك في تاريخ معين بعد وفاته . .
المخلص . . .))
قلبت الرسالة المرفقة مرة تلو الأخرى , حتما هي من بوارو , أنا أعرف كتابته , و بقلب مثقل و لهفة فتحتها . . .
(( صديقي العزيز المحب ,
لن أكون موجودا لدى استلامك هذه الرسالة لا تأسف علي و لكن اتبع أوامري :
عند استلامك هذه الرسالة عد إلى أمريكا الجنوبية فورا , لا تكن عنيدا , إنني لا أناشدك أن تنجز هذه الرحلة من أجل العاطفة , بل إنها ضرورية , جزء من خطة بوارو , و لعلك فهمت يا صديقي الذكي . .
. . فليسقط الأربعة الكبار !
هيركيول بوارو )) .
قرأت هذا البلاغ مرارا , شيء واحد كان واضحا : لقد أعد الرجل المذهل لكل وجه حتى أن موته لم يضرب تسلسل خطته : أنا العضو المنفذ وهو العقل المدبر , أعدائي سوف يحسبون أني أطعت تحذيرهم فلا ينشغلون بي , و أعود دون اشتباه و أدمرهم . .
وأرسلت برقية و حجزت على السفينة (( أنزونيا )) في طريقي إلى بيونس آيرس , و بعد أن غادرت السفينة مرفأها أحضر لي المضيف رسالة أخذها من رجل ضخم يلبس معطف فرو غادر السفينة قبل أن ترفع ألواح المعابر الخشبية , فتحتها . . كان فيها كلمتان :
أنت حكيم .
رقم {{4}}
و ضحكت في نفسي
البحر كان هادئا , واستمتعت بعشاء حسن , و رأيت – مثل سائر زملائي المسافرين – أن ألعب مباراة أو اثنتين في البريدج , ثم عدت ونمت كالقتيل , و هذا حالي كلما ركبت سفينة
و صحوت من إحساسي بأنني كنت أهتز مرارا , رأيت – و أنا مذهول – قبطانا يقف فوقي
- شكرا لله ! صحوت أخيرا ؟ هل تنام دائما في هذه الهيئة ؟
- ماذا في الأمر ؟ هل أصاب السفينة شيء ؟
- ظننت أنك تعرف . . إنها أوامر قيادة البحرية , مدمرة تنتظرك لتأخذك معها
- ماذا؟ في وسط المحيط ؟
- ليس هذا شأني , لقد أرسلوا إلى السفينة شابا يحل محلك , و قد أقسمنا جميعا على السرية . هلا نهضت و لبست ثيابك ؟
فعلت ما طلب مني و أنا عاجز عن كتمان عجبي
تم إنزال قارب و حملت على ظهر مدمرة , و استقبلوني بترحيب لكني لم أفهم شيئا , كانت أوامر القائد أن أنزل في بقعة ما على الساحل البلجيكي , هناك تنتهي معرفته و مسؤوليته
كل شيء كان كالحلم , لكن ما استقر في قلبي أن هذا لا بد أن يكون جزءا من خطة بوارو , ينبغي أن أسير كالأعمى واثقا من صديقي الذي مات !
هبطت في نقطة ما , كانت هناك سيارة تنتظرني , و في الحال عبرنا سهول فليميش المنبسطة , و نمت في تلك الليلة في فندق صغير في بروكسيل , و واصلنا المسير في اليوم التالي , و دخلنا الغابات و الجبال , و عرفت أننا على جبال الأردنيز . . و فجأة تذركت أن لبوارو أخا يعيش في منتجع , لكننا لم نذهب إليه
تركنا الطريق الرئيسي و عرجنا ناحية الهضاب في مكان ما منعزل حتى وصلنا إلى قرية صغيرة فيها دار منعزلة , وقفت السيارة أمام بابها الأخضر . .
نزلت من السيارة , كان على مدخل الباب عجوز ينحني لي , قال بالفرنسية :
- كابتن هيستنغز ؟ أرجوك اتبعني
و سار أمامنا عابرا القاعة , و فتح في نهايتها بابا كبيرا على مصراعيه , ووقف جانبا لكي يسمح لي بالدخول . .
طرفت عيناي قليلا لأن الغرفة كانت من جهة الغرب و كانت شمس الأصيل تخترق الغرفة , ثم فتحت عيني و رأيت رجلا يمد يده إلي . . كان ذلك الرجل . . آه ! مستحيل . . كيف ؟ لكن , نعم . . صحت : بوارو !
و لم أحاول التهرب من العناق الذي غمرني به
- نعم , نعم , ليس سهلا قتل بوارو . .
- ولكن , بوارو . . لماذا ؟
- الحرب يا صديقي خدعة , كل شيء الآن جاهز لانقلابنا الكبير !
- لماذا لم تخبرني ؟
- لا يا هيستنغز , لم أتمكن ؛ لأنك ما كان يمكن أن تمثل دورك في جنازتي عندئذ بالاتقان الذي سارت عليه الأمور
- لكن الذي كنت سأكشفه . .
- لقد رسمت خطة من أجلك, بعد الانفجار خطرت لي فكرة لامعة و ساعدني على تنفيذها ريدغوي الطيب فيها : أنا ميت و أنت ستعود إلى أمريكا الجنوبية , لكن هذا يا صديقي مالم تكن لتفعله , فكان علي في نهاية المسألة أن أدبر مسألة رسالة المحامي , لكن , على كل حال ها أنت هنا , ذاك هو الشيء العظيم , و الآن نحن نستلقي هنا بعيدين حتى تأتي خطة الانقلاب الكبير الأخير . . الإطاحة بالأربعة الكبار !
بدأت أدرك أن بوارو قد تغير بعد الوفاة المأساوية لمونرو . حتى ذلك الحين كانت ثقته بنفسه التي لا تهتز قد قاومت التجربة , لكن الإجهاد الطويل أخذ منه مأخذا فكان يبدو مهموما كئيبا كأنما أعصابه توشك أن تنهار
في هذه الأيام كان هائجا كأنه قط يتجنب كل نقاش في الأربعة الكبار , لكني كنت أعلم أنه كان نشيطا في المسألة سرا
كان يزوره كثيرا رجال غرباء , لكنه لم يتعطف علي بأي بيان لهذا النشاط الخفي , و فهمت أنه كان يبني دفاعا جديدا و سلاحا مواجهة بمساعدة هؤلاء الرجال ذوي المظاهر المثيرة للاشمئزاز
و ذات مرة – مصادفة – رأيت ما هو مدون في دفتر حساباته المصرفي , و كان قد طلب مني أن أتحقق من أمر ما , فعرفت أنه قد دفع مبلغا كبيرا من المال , كبيرا جدا حتى على بوارو الذي يكسب المال عادة بسرعة , دفعه لرجل روسي ما أطول اسمه !
و مازال يكتم الأمر , كان يكرر دوما قوله : (( إياك ألا تقدر عدوك يا صديقي , تذكر ذلك دائما )) ففهمت أن ذلك كان الشرك الذي يجتهد أن يتجنبه بأي ثمن
و هكذا سارت الأمور حتى نهاية آذار , و في أحد الأيام قال بوارو كلاما أرعبني :
- هذا الصباح يا صديقي عليك أن تلبس أفضل ثيابك , سنزور وزير الداخلية
- حقا ؟ هذا مدهش ! و هل هو الذي استدعاك ؟
- كلا , بل أنا طلبت مقابلته , لعلك تذكر أنني قد أديت له خدمة و هو متحمس بسببها و سوف ينفعني حماسه , و كما تعرف , رئيس وزراء فرنسا السيد ديسحارديو يزور لندن الآن , و سوف يحضر اجتماعنا الصغير هذا الصباح
اللورد سيدني مراوثر وزير الداخلية رجل معروف مشهور , في الخمسين من عمره , ذو أسلوب مرح و عيون رمادية لاذعة , استقبلنا بتلك الطريقة المرحة الأنيسة , و كان في البيت رجل طويل نحيف يقف و ظهره إلى الموقد , ذو لحية سوداء ووجه رقيق
قال كراو ثر :
- سيد ديساجرديو , هدا هو السيد هيركيول بوارو , لعلك سمعت به
انحنى الرجل الفرنسي و مد يده يصافحه , و قال بفكاهة :
- أجل قد سمعت بالسيد بوارو , و من ذا لا يعرفه ؟
احمر وجه بوارو من البهجة , قال :
- هدا لطف منك سيدي !
ثم تقدم رجل من زاوية بجانب خزانة كتب طويلة . . كان ذاك هو السيد إنغليز صديقنا القديم , و صافحه بوارو بشدة . قال كراوثر :
- و الآن , سيد بوارو , نحن في خدمتك , لقد فهمت أن لديك معلومات في غاية الأهمية تريد إطلاعنا عليها
- أجل يا سيدي . . . في هذا العالم اليوم منظمة واسعة في الجريمة رؤوسها أربعة أفراد اسمهم الأربعة الكبار , رقم ((1)) رجل صيني اسمه لي شانغ ين , رقم ((2)) المليونير الأمريكي آبي ريلاند , رقم ((3)) امرأة فرنسية , أما رقم ((4)) فلدي من الأسباب ما يدعوني الى الاعتقاد بأنه الممثل الإنكليزي الغامض كلود داريل
و هؤلاء الأربعة قد اتحدوا لكي ينشروا الفوضى و يقوضوا النظام الاجتماعي القائم في العالم و يستبدلوا به نظاما استبداديا تكون لهم من خلاله السيطرة
همس الفرنسي :
- مستحيل أن يتورط ريلاند في شيء كهذا ! الفكرة خيال بالتأكيد
استمع إلي يا سيدي أسرد عليك بعض أفعالهم
كان الوصف الذي قدمه بوارو ساحرا , و لقد كنت أعرف كلامه تفصيلا لكنه أثارني من جديد و أنا أسمع وصف مغامرتنا الخطرة !
نظر السيد ديسجاردريو في صاحبه كراوثر بعد أن أنهى بوارو حديثه , و أجاب كرواثر على النظرة :
- نعم يا سيد ديسجاردريو يجب علينا أن نقر بوجود الأربعة الكبار , لقد سخرت سكوتلانديارد من لك في البداية , و زعمت الشرطة أن السيد بوارو يبالغ كثيرا , غير أني شخصيا أشعر أن كلامه صحيح , و قد أجبرت الشرطة و سكوتلانديارد على التسليم بأكثر من هده الفرضيات
بين بوارو لهما عشر نقاط بارزة طلب مني أن لا أعلنها , و تضمنت الكوارث التي أصابت الغواصات و سلسلة حوادث الطائرة و هبوطها الإجباري , و حسب كلام بوارو كانت جميعا من فعل الأربعة الكبار , و شهد بان عندهم أسرار علمية لا يعرفها العالم كله , و هذا جعل رئيس وزراء فرنسا يسأل بوارو سؤالا كنت أنتظره :
- قلت بأن العضو الثالث من هذه المنظمة امرأة فرنسية , هل تعرف اسمها ؟
- انه اسم مشهور جدا يا سيدي , اسم ذائع الصيت , رقم ((3)) ليس إلا مدام أوليفير !
و لما ذكر اسم العالمة الكبيرة خليفة المدام كوري قفز السيد ديسجاردريو من كرسيه , احمر وجهه و قال :
- مدام أوليفير ؟ مستحيل ! هذا سخف ! ان الذي تقوله إهانة . .
هز بوارو رأسه بلطف لكنه لم يجبه . نظر ديسجاردريو إليه مذهولا لبضع دقائق , ثم التفت إلى وزير الداخلية و ضرب على جبينه بصورة ذات دلالة , قال :
- السيد بوارو رجل عظيم , لكن حتى العظماء يصيبهم الهوس أحيانا , هذا معروف , أليس كذلك يا سيد كراوثر ؟
صمت وزير الداخلية قليلا ثم أجابه بلسان ثقيل :
- لا أدري , كنت دائما و ما زلت أثق بالسيد بوارو , لكن هذا جدير بالملاحظة !
- ديسجاردريو : لي شانغ ين أيضا , من ذا سمع به من قبل ؟
و جاء الصوت من السيد إنغليز على غير توقع :
- أنا سمعت . .
حدق إليه الرجل الفرنس ثم نظر بهدوء كأنه وثن صيني , أوضح وزير الداخلية :
- السيد إنغليز هو أعظم مرجع لدينا في شؤون الصين
- إنغليز : لقد ظننت أنني الرجل الوحيد في إنكلترا الذي يعرف عنه , إلى أن جاءني السيد بوارو . لا تخطئ يا سيد ديسجاردريو , في الصين رجل واحد ذو أثر اليوم : لي شانغ ين , و قد يكون أذكى دماغ في العالم اليوم على الإطلاق
جلس السيد ديسجاردريو كالمصعوق , لكنه ملك قواه و قال :
- ربما يصح شيء مما تقول يا سيد بوارو , و لكنك مخطئ بالتأكيد فيما يتعلق بمدام أوليفير . . إنها ابنة فرنسا المخلصة للعلم !
هز بوارو كتفيه استهجانا و لم يجب
ران الصمت بعض الوقت , ثم نهض صديقي و عليه ملامح الوقار :
- هذا كل ما أردت قوله يا سادة , إني أحذركم , دار في خلدي أنكم ربما لا تصدقونني , لكنكم قد تصبحون أكثر حذرا , إن كلماتي ستدخل في الأعماق و كل جديد سيؤكد لكم الحقيقة , كان ضروريا أن أتحدث الآن إليكم , فلعلي لا أستطيع لقاءكم بعد هذا اليوم !
- تقصد . . ؟
- أقصد أنني أصبحت في خطر دائم مند فضحت اسم رقم ((4)) , سوف يسعى لتدميري بأي ثمن , و ليس اسمه ((المدمر)) من فراغ أو ضعف يا سادة . أسلم عليكم , و إليك يا سيد كراوثر هذا المفتاح و هذا الظرف , كتبت كل ملاحظاتي عن القضية و أفكاري حول أحسن السبل لمواجهة الخطر الذي قد يعم العالم يوما ما و وضعتها في خزانة , فإن قتلت يا سيد كراوثر فأنت صاحب الحق للتصرف بتلك الأوراق , يوما طيبا !
خرجنا و خرج إنغليز معنا , و قال بوارو و نحن نسير :
- ما خاب ظني في المقابلة لم أتوقع إقناع ديسجاردريو , لكنني ضمنت أنني اذا مت فإن معرفتي لا تموت , لقد أقنعت واحدا من اثنين . . . لا بأس !
- إنغليز : إنني معك كما تعرف , و وسوف أسافر إلى الصين إن نجوت بنفسي
- هل هدا عمل حكيم ؟
- لا , لكنه واجب , و علي أن أعمل ما أستطيع
- آه إنك رجل شجاع , و لو لم نكن في الشارع لعانقتك
ظننت أن إنغليز بدا مطمئنا . . و هدر قائلا :
- قد لا أكون في خطر و أنا في الصين أكثر من الخطر الذي تواجهه أنت في لندن
- ربما , أرجو أن لا يذبحوا هيستنغز أيضا . . إن هذا يزعجني كثيرا !
قاطعت حديثهما اللطيف لأقول بأنني لا أعتزم ترك نفسي تدبح , و بعد ذلك بقليل تركنا إنغليز , سرنا بصمت بعض الوقت لكن بوارو قطعه و قال عبارة مفاجأة تماما , قال :
- أظن أن علي أن أقحم أخي في هذه القضية
- أخوك ؟ لم أعرف أن لك أخا من قبل
- يا هيستنغز , ألا تعلم أن رجال التحري جميعا لهم إخوة ؟
بوارو له طريقة عجيبة أحيانا تجعل المرء في حيرة مايدري أجاد هو أم هازل ! سألته و أنا أحاول أن أوافقه :
- و ما اسم أخيك ؟
- أشيلي , يعيش قرب منتجع صحي في بلجيكا
- و ماذا يعمل ؟
- لا شيء ؛ لأنه مريض , لكن قدرته على الاستنتاج ليست دون قدرتي
- و هل يشبهك ؟
- أجل لكنه ليس أنيقا و يحلق شاربه
- أكبر منك ؟
- لقد صادف أنه ولد في نفس اليوم الذي ولدت فيه !
صحت مندهشا : توأمان !
- تماما يا هيستنغز , إنك تقفز إلى النتيجة الصحيحة بدقة ! ها نحن قد عدنا إلى البيت ثانية , دعنا نشتغل في الحال بتلك القضية السهلة , قضية عقد الدوقة
لكن قدر لقضية عقد الدوقة أن تتأجل بعض الوقت , فقد كان عندنا قضية من نوع آخر , فما إن دخلنا إلى البيت حتى جاءت السيدة بيرسون و أخبرتنا أن ممرضة اتصلت و أنها تريد رؤية بوارو
دخلنا فوجدناها تجلس على مقعد كبير تقابل الشباك . . امرأة جميلة في ربيع العمر , عليها زي كحلي , كرهت الحديث في المسألة قليلا لكن بوارو طمأنها فأخذت تحكي قصتها :
- أرسلني مستشفى لارك سيتر هود لكي أمرض عجوزا في هيرتفوردشير اسمه السيد تيمبلتون , و كان بيته يثير البهجة و أهله فرحون , الزوجة : مدام تيمبلتون أصغر كثيرا من زوجها , و له ابن من زواجه الأول يعيش هناك , و لكنه لم يكن على وفاق تام مع زوجة أبيه , و هو لم يكن مختلا تماما و لكنه من النوع البطيء التفكير
حسنا . . لقد كان العجوز مريضا , و بدا لي مرضه مند البداية غامضا , و في ذلك الوقت بدا سليما معافى , ثم – فجأة – أصابته نوبة معوية مع ألم و تقيؤ , لكن طبيبه بدا راضيا عن حالته و لم أستطع أن أقول شيئا , بيد أني لم أملك نفسي من التفكير في حالته ثم . .
سكتت و احمر وجهها , و قال بوارو :
- حدث شيء أثار شكوكك ؟
- نعم
ثم سكتت و قد بدا أن الاستمرار صار صعبا عليها . .
- عرفت أن الخدم ينقلون كلاما أيضا . .
- عن مرض السيد تيمبلتون ؟
- آه ! كلا , بل عن هدا الشيء الآخر !
- السيدة تيمبلتون ؟
- نعم
- ربما مع السيدة تيمبلتون مع الطبيب ؟
كان بوارو ذا حاسة خارقة في هده الأمور . . . ألقت الممرضة عليه نظرت شكر و أكملت :
- كانوا ينقلون كلاما , ثم ذات يوم رأيتهما بعيني في الحديقة . .
توقفت المسألة هكذا ,لقد كانت زبونتنا في كرب شديد لأنها انتهكت الحشمة , فلم نسألها مادا رأت حياء , لكنها حتما قد رأت ما فيه برهان
- النوبة ساءت و ساءت , الدكتور تريفز زعم أن كل مايصيب العجوز طبيعي متوقع و أنه ربما لا يعيش طويلا , لكنني لم أر شيئا من هدا أبدا من قبل طوال خبيرتي في التمريض , بل بدا لي أنه شكلا من . .
أطرقت مرة أخرى و هي مترددة , فتدخل بوارو مساعدا :
- التسمم الزرنيخي . .
هوت رأسها موافقة
- و المريض قال بعد ذلك شيئا عجبا , قال (( سيقتلونني أربعتهم ! سيقتلونني ! ))
- ماذا ؟!
- كانت هذه هي كلمته يا سيد بوارو , كان يكابد ألما عظيما آنذاك و لا يعي – على الأغلب – ما يقول
- مذدا تظنين معنى قوله (( أربعتهم )) ؟
- لست أدري , لعله كان يقصد زوجته و ابنه و الطبيب و الآنسة كلارك صاحبة زوجته , ربما كان يتوهم أنهم جميعا متحدون عليه
- نعم , ربما . . و ماذا عن الطعام ؟ ألم تأخذي حذرك في شأنه ؟
- إنني دائما أفعل ما أستطيع لكن السيدة تيبلتون تلح أحيانا كي تطبخه هي بيدها , ثم أحيانا أكون في عطلة
- تماما , و أنت لست على يقين من الأمر كي تبلغي الشرطة
أظهر وجه الممرضة خوفها عند هدا السؤال . .
- أصابت السيد تيمبلتون نوبة بعد شربه صحنا من المرق , فأخذت حثالة المرق و أحضرتها معي , لقد ألغيت اليوم زيارة إلى أمي المريضة من أجله . .
أخرجت قنينة ملئت سائلا قاتما و أعطتها بوارو :
- أحسنت يا آنسة , سوف نحللها الآن , إذا رجعت بعد ساعة فنكون قد حسمنا شكوكك
و كتب بوارو اسمها و بعض المعلومات عن مؤهلاتها ثم سطر رسالة و بعثها مع قنينة المرقة , و بينما كنا ننتظر النتيجة كان بوارو يسلي نفسه بالتحقيق في أوراق الممرضة مما أدهشني , فقال :
- أنا أعمل جيدا يا صديقي كي أكون حذرا , لا تنس أن الأربعة الكبار يتعقبوننا
عرف بوارو أن اسمها مابل بالمر , كانت تعمل في مهد لارك , ترى لماذا أرسلت إلى تيمبلتون ؟ قال و عينيه تلمع :
- حسنا و الآن هاهي بالمر قد رجعت و هاهو بيان التحليل . .
- هل فيه زرنيخ يا سيد بوارو ؟
- لا !
دهشت أنا و الممرضة كثيرا , و أكمل بوارو :
- ليس فيه زرنيخ لكن فيه أنتيمون , سنذهب حالا إلى هيرتفوردشير , أدعو الله ألا نكون متأخرين
لقد قرر بوارو أن يقدم نفسه كرجل تحر , لكن حجته الظاهرة أنه أتى يسأل مدام تيمبلتون عن خادمة كانت تعمل عندها , و يزعم أن لها علاقة بسرقة الجواهر
وصلنا بيتهم المسمى (( إلمستيد ))في ساعة متأخرة , بعدما سمحنا للممرضة أن تسبقنا بعشرين دقيقة حتى لا تثار شكوك حول وصولنا سوية
السيدة تيمبلتون امرأة طويلة عبوس يبدو في عينيها القلق
استقبلتنا و لاحظت مسحة من الخوف سرت على وجهها عندما أعلن بوارو عن هويته . لكنها أجابت سؤاله في شأن الخادمة بجلد , ثم بدأ بوارو حديثه في تاريخ طويل لقضية تسميم وصفتها امرأة مذنبة , عيناه لم تغادر وجهها وهو يتحدث و قد حاولت هي كبت هيجانها الدي كان يزيد , ثم فجأة , أسرعت من الغرفة بعذر ضعيف . .
لم نترك وحدنا طويلا , فقد دخل علينا رجل قوي الجسم شاربه أحمر خفيف و على أنفه نظارة , قدم نفسه قائلا :
- دكتور تريفيز . طلبت مني مدام تيمبلتون أن أعتذر لكما فهي في حالة سيئة , إنها متوترة بسبب قلقها على زوجها و قد نصحت لها أن تذهب للنوم حالا , لكنها ترجوكما أن تبقيا ! لقد سمعت بك يا سيد بوارو و نريد أن ننتفع بحضورك . . ها هو ميكي . .
و دخل علينا فتى بطيئ الحركة , يدل وجهه المدور و حاجباه المرتفعان على حماقة و دهشة دائمة , ابتسم بصورة عجيبة وهو يصافحنا . يبدو أنه كان ذلك الابن (( بطيء التفكير )) !
و قمنا جميعا لوجبة العشاء , و عندما انصرف الدكتور ليأتي ببعض الطعام , صارت ملامح وجه الفتى متغيرة بصورة مخيفة : مال للأمام وهو يحدق ببوارو , و قال وهو يهز رأسه :
- أنت جئت من أجل أبي , أعرف . . أعرف أشياء كثيرة , لكن لا أحد يظنني أعرف , أمي ستفرح حين يموت أبي , وتستطيع أن تتزوج الدكتور تريفيز , إنها ليست أمي . . إني لا أحبها
كان كل شيء مرعبا , و من حسن الحظ أن عاد الدكتور تريفيز قبل أن يلفظ بوارو كلمة معه , و كان علينا أن ننشغل بحديث آخر
و فجأة أسند بوارو ظهره إلى الكرسي و جعل يتأوه ووجهه يتلوى من الألم . . صرخ الدكتور :
- سيدي العزيز , ماذا أصابك ؟
- تشنج مفاجئ . . إنني معتاد عليه . لا , لا أحتاج إلى مساعدة منك يا دكتور , هل يمكن أن أستريح في الطابق الأعلى ؟
قبل طلبه فورا و صحبته إلى الأعلى حيث سقط على سريره و هو يئن بشدة , لقد ذهلت قليلا لكني فهمت بسرعة أن بوارو كان يمثل و أن غايته أن يترك وحده في الطابق الأعلى بجوار غرفة المريض , و لقد كنت مستعدا حين قفز واقفا في اللحظة التي كنا وحدنا :
- أسرع يا هيستنغز , الشباك . . . اللبلاب هناك في الخارج , نستطيع أن ننزلق عليه إلى الأسفل لنهرب قبل أن يشكوا في غيابنا !
- ننزل إلى أسفل ؟
- أجل , لا بد أن نخرج من هنا حالا , هل رأيته في العشاء ؟
- الطبيب ؟
- لا , تيمبلتون الفتى , عادته العجيبة في الخبز ! ألا تذكر ما قالته مونرو لنا ؟ قالت بأن كلود داريل كان فيه عادة تفتيت الخبز على الطاولة ليأكل لب الرغيف , إنها مؤامرة محكمة يا هيستنغز , و هذا الفتى المعتوه هو عدونا الخبيث . . رقم ((4)) . . . أسرع !
انزلقنا على نبات اللبلاب و نزلنا بسكون و بالكاد أدركنا قطار الساعة 8,34 الأخير الذي أوصلنا إلى البلدة في الساعة الحادية عشرة مساء
قال بوارو متأملا : مؤامرة ! ترى كم واحدا منهم شارك فيها ؟ أشك في أن أسرة تيمبلتون جميعا ليسوا سوا عملاء للأربعة الكبار , هل أرادوا هكذا بسهولة أن نقع في شركهم أم أنها كانت أكثر مكرا ؟ هل كانوا . . ماذا ؟ إنني أتساءل !
ظل يفكر كثيرا . .
و عندما وصلنا إلى مسكننا أبقاني عند باب غرفة الجلوس :
- تنبه يا هيستنغز , عندي شكوك , دعني أدخل أولا . .
دخل , ثم دهب حول الغرفة كأنه قطة غريبة بحذر و هدوء تام , و راقبته قليلا و أنا في مكاني جانب الحائط , قلت و قد نفذ صبري :
- كل شيء على ما يرام يا بوارو
- عسى أنه كذلك لكن دعنا نتأكد
- سأشعل نارا و أدخن بغليوني . . هاهي أعواد الثقاب قد تركتها أنت هذه المرة و لم تعدها إلى مكانها , و هو الأمر الذي كنت تعيبه علي
مددت يدي , فسمعت صرخة بوارو , قفز نحوي , لمست يدي علبة الكبريت . . ثم . . وميض من اللهب الأزرق . . ضربة على الأذن , و ظلام !
وعيت لأجد صديقنا الدكتور ريدغوي يجثو على ركبتيه فوقي تلمح في وجهه الطمأنينة , قال :
- كن هادئا , لقد وقع حادث , أنت بخير
- و بوارو ؟
- أنت في بيتي اطمئن
شعرت خيفة , هروبه من الجواب ألقى في نفسي خوفا رهيبا . .
- بوارو ؟ أين بوارو ؟
أدرك أن علي أن أسمع جوبا فقال :
- لقد نجوت بمعجزة , أما بوارو فلم ينج
انفجرت صرخة من بين شفتي :
- لم يمت ؟ لم يمت ؟
حنى ريدغوي رأسه . . و جلست أنا و قلت بضعف :
- ربما يكون بوارو قد مات . . لكن روحه . . ستعيش ! سأتابع عمله , الموت للأربعة الكبار ! ثم سقطت على ظهري فاقدا الوعي
الفصل السادس عشر
لا أحتمل الكتابة عن تلك الأيام التي حدثت من شهر آذار . . بوارو مات ! لقد كان في علبة الكبريت لمسة شيطانية , كان محتما أن تفلت أعوادها غير المرتبة اهتمامه فيسرع لكي ينسق أعوادها المبعثرة , و هكذا سببت اللمسة الانفجار !
الحق أنني أنا الذي عجلت في الكارثة , و هدا ملأني ندما لا ينفع و لا يدفع !
قال الدكتور ريدغوي بأن نجاتي كانت معجزة , لكن ارتجاجا طفيفا أصابني , و بعد أن استرجعت وعيي مشيت مترنحا إلى الغرفة المجاورة قبل حلول ظلام اليوم الذي تبع الحادث , و رأيت بحزن عميق تابوتا من خشب الدردار ترقد فيه بقايا واحد من أروع الرجال الذين عرفتهم !
و منذ أول لحظة عاد فيها وعيي كان عندي هدف واحد . .الانتقام لموت بوارو و أن أصيد الأربعة الكبار بلا رحمة . . و ظننت أن الدكتور ريدغوي يفكر مثلي , و لكن الطبيب الطيب بدا فاترا و لم أدر لماذا ؟ . . (( عد إلى أمريكا الجنوبية )) , هكذا ظل ينصحني . . لماذا ؟ لقد قال بأن بوارو الخارق قد فشل فهل أنجح أنا ؟
لكنني أصررت و تجاهلت كل تشكيك في قدراتي . . لقد عملت مع بوارو طويلا فعرفت منه أسلوبه , و شعرت بالقدرة التامة على متابعة العمل الذي رسمه . . لقد قتل صديقي قتلة قاسية , فهل علي أن أؤوب إلى أمريكا دون جهد لإحضار قتلته أمام العدالة ؟
قلت هذا كله و أكثر منه لريدغوي الذي كان ينصت لي قبل أن يعلق قائلا :
- مهما يكن فإني أنصحك , و لو كان بوارو نفسه بيننا لكان ألح عليك بالعودة , أتوسل إليك باسمه يا هيستنغز أن تترك هذه الفكرة المتهور و ترجع إلى مزرعتك !
و ما زلت على جوابي فلم يقل شيئا و هز رأسه بأسف !
و مضى شهر استعدت فيه عافيتي و عند نهاية شهر نيسان سعيت و عقدت لقاء مع وزير الداخلية فكان رأي السيد كراوثر يذكرني بكلام الدكتور ريدغوي , ففي حين كان يشكر لي كان يرفض عرضي بلطف و حذر , أوراق بوارو صارت في حوزته و قد أكد لي بأنه سيتخذ كل عمل جائز لمواجهة الخطر الذي يدنو و يقترب
و مع هذا العزاء البارد حملت على الاقتناع , أنهى السيد كراوثر اللقاء بأن ألح علي أن أعود إلى أمريكا . . لقد رأيت كل المسألة لا ترضيني . . و الآن يجب أن أصف جنازة بوارو
كان احتفالا وقورا مهيبا و كلمات الإجلال التي قيلت كانت فخمة جزيلة , لقد جاء المعزون من أماكن شتى و توافدوا إلى المكان الذي اختاره صديقي لنفسه . . بلد إقامته ! لقد غلبني الحزن و أنا أقف عند جانب المقبرة و ذكرت جميع تجاربنا المختلفة و الأيام السعيدة التي عشناها معا
في بداية شهر أيار رسمت خطة الحملة : لن أفعل خيرا من اتباع خطة بوارو في الإعلان من أجل جذب كلود داريل , و نشرت إعلانا في عدد من الصحف الصباحية , و كنت أجلس في مطعم صغير في سوهو و أرى تأثير الإعلان من خلال قراءتي للصحف
فجأة صدمتني فقرة صغير صدمة عنيفة . . (( اختفى السيد جون إنغليز من السفينة (( شنغهاي )) بعد مغادرتها ميناء مرسيليا بقليل , و رغم أن الجو كان هادئا تماما لكن يخشى أن الرجل المسكين قد سقط من السفينة )) , و انتهت الفقرة بحديث مقتضب حول خدمة السيد إنغليز الطويلة و المميزة في الصين
كان الخبر غير سار , أدركت أن وراء مقتل إنغليز دافعا شريرا , لم أصدق أبدا النظرية القائلة بأنه مات بحادث , قطعا كان موته من فعل الأربعة الكبار الملعونين !
و بينما كنت مذهولا من المصيبة أقلب المسألة كلها في دماغي داخلني خوف من سلوك الرجل الجالس مقابلتي و لم أكن قد أعرته كبير اهتمام . كان نحيفا أسمر متوسط العمر شاحب البشرة ذا لحية خفيفة , جلس مقابلي بهدوء تام حتى أنني لم أحس بقعوده , لكنه الآن صار يفعل فعلا غريبا قطعا : مال إلى الأمام و نثر عمدا أربع كومات من الملح حول حافة صحني , قال بصوت كثيب :
- اسمح لي : إنهم يقولون أن تقديم الملح هو نوع من المواساة للغريب , أرجو أن تكون فهمت . .
صنع – في دلالة مؤكدة – عند صحنه ما فعله لي , إن الرمز ((4)) كان واضحا !
نظرت إليه بإمعان , لم أستطع أن أرى أنه يشبه تيمبلتون الصغير و لا جيمس الخادم أو أيا كان من الشخصيات الأخرى المختلفة التي صادفتنا , لكنني كنت جازما بأنني أواجه رقم (( 4)) المروع نفسه , الصوت كان فيه شبه ضعيف من صوت الرجل الغريب ذي المعطف المزرر الذي زارنا في باريس
نظرت حولي مترددا حول رد فعلي المناسب , و بدا أنه يقرأ أفكاري , تبسم وهز رأسه بلطف و قال :
- لا أنصحك بهذا , تذكر ما حدث من العجلة في باريس , طريق هروبي مفتوحة تماما , أنت تضمر الشر قليلا يا كابتن هيستنغز . .
قلت و أنا أختنق من الغضب :
- تبا أيها الشيطان !
- غضبان . . أنت تافه غضبان , لا بد أن صاحبك الراحل أخبرك بأن الرجل الذي يظل هادئا يجني دائما منفعة عظيمة . .
صحت فيه :
- تجرؤ أن تتكلم عن الرجل الذي قتلته بتلك الطريقة القذرة . . .
قاطعني قائلا :
- جئت هنا من أجل هدف سلمي , لكي أنصحك أن تعود إلى أمريكا الجنوبية فورا , إن فعلت ذلك فستنتهي المسألة بقد ما يعني ذلك للأربعة الكبار و لن نؤذيك أنت و لا زوجتك , أعدك بذلك
ضحكت بازدراء :
- و إذا رفضت ؟
- هذا ليس أمرا , دعنا نقل بأنه . . تحذير , التحذير الأول , أنصحك أن لا تضيعه . .
ثم نهض و انسل خارجا بسرعة نحو الباب قبل أن أقدر نيته , لحقته لكن حظي كان تعيسا , فقد اصطدمت برجل بدين سد الطريق , و لما فككت نفسي منه كان طريدي يجتاز مدخل الباب , و قابلني نادل يحمل كومة كبيرة من الصحون صدمني أيضا دون إشعار , و ما إن وصلت الباب حتى كان الرجل قد اختفى !
كان اعتذار النادل سمجا , و الرجل البدين جلس بهدوء على طاولة و طلب غذاء , ربما كان كلا الحادثين مصادفة , لكنني كنت أعرف جيدا أن عيون الأربعة الكبار في كل مكان !
لقد شدني تحذير الرجل , لكنني سأعمل أو أموت من أجل قضية صالحة
و لم إجابات مفيدة عن الإعلانات , إنما وردتني إجابتان من ممثلين عملا مع داريل قليلا و لم يكونا يعرفانه عن قرب و لم يذكرا هويته أو مكانه !
مرت عشرة أيام و لم تظهر علامة أخرى من الأربعة الكبار , و كنت أقطع هايد بارك و أنا حيران أفكر , ناداني صوت امرأة جاهر , يبدو أنها أجنبية . .
- أنت كابتن هيستنغز , أليس كذلك ؟
توقفت سيارة أجرة فاخرة جنب الرصيف , و أطلت منها امرأة تلبس ثوبا أسود و عقدا من اللؤلؤ رائعا . . عرفتها : الكونتيسة فيرا روساكوف . . جندية الأربعة الكبار !
كان لبوارو ولع خفي بالكونتيسة , شيء ما فيها جذب الصغير , كان في لحظات الحماس يقول بأنها امرأة تساوي ألفا من النساء ولو كانت تعمل ضدنا . .
روساكوف : آه , لا تعبر الشارع , عندي شيء هام جدا و أريد أن تسمعه , و إياك أن تسعى إلى اعتقالي لأن ذلك سيكون غباء منك , أنت غبي لأنك عازم ألا تطيع تحذيرنا , و هذا هو تحذيرنا الثاني جاءك معي : (( غادر إنكلترا في الحال , قعودك لا يفيد , لن تجني شيئا هنا أبدا ))
- كلكم مهتمون بإخراجي من البلد , عجبا !
هزت روساكوف رأسها استهجانا . .
- أنا أظن أنك أحمق , كنت سأتركك هنا تعمل بسعادة , لكن الرؤساء يخافون كلمة منك ربما تساعد أولئك الذين هم أكثر ذكاء منك . .
كظمت غيظي , كلمتها هذه أزعجتني لأن فيها إشارة استخفاف بي . قالت :
- هذا ما سوف يكون , من السهل أن ينفوك , لكنني أشفق على الناس أحيانا , إنني أناشدك , إن لك زوجة صغيرة حسناء في مكان ما , أليس كذلك ؟ و لسوف يسعد الرجل الصغير في قبره أنك لم تمت , لقد كان يعجبني , كان ذكيا ! لو لم تكن قضية أربعة مقابل واحد لعظمناه كثيرا . . لقد كان بوارو أستاذي , لقد أرسلت إكليلا إلى الجنازة إعلانا بإعجابي , إكليلا كبيرا من الورود القرمزية التي أحبها
استمعت إليها في صمت و حقد و ما زالت تتكلم :
- أنت كالبغل , حين يحرك أذنيه و يرفس , حسنا , فقد أبلغتك تحذيري فتذكر , الإنذار الثالث سيأتي من يد المدمر . .
و أشارت إلى السائق فانطلقت السيارة , لاحظت رقمها لكن لا أرجو أملا من هذا ؛ الأربعة الكبار لا يتركون هذه التفصيلات
ذهبت إلى البيت هادئا قليلا , لقد عرفت من السيل الجارف نم كلماتها حقيقة واحدة : حياتي في خطر ! لا , لن أتخلى , بل أمضي بحذر شديد و أحترس . .
و بينما أنا أعرض كل هذه الحقائق و أدرس خير طريقة للعمل رن الهاتف :
- نعم .. مرحبا .. من يتكلم ؟
- مستشفى سانت جيلز , عندنا رجل صيني طعن بالسكين و أحضر إلينا , لن يعيش طويلا , لتصلنا بك لأننا وجدنا في جيبه قصاصة ورق عليها اسمك و عنوانك . .
- سأحضر فورا
كنت مذهولا !
مستشفى سات جيلز بجانب أحواض السفن , إذن فلعل الصيني يكون قد خرج لتوه من سفينة . . أم أن الأمر كله فخ ؟ مهما يكن فربما يكون لشانغ ين يد فيما يجري ! لن تضرني زيارة المستشفى , عسى أن يبوح لي الصيني المحتضر بشيء أستنير به , لكنني سأتكلف الحماقة و أنا – في الواقع – يقظان
وصلت المستشفى , و بعد أن عرفت بنفسي قادتني بعض الممرضات فورا إلى جناح الحوادث
رأيت الصيني راقدا بدون حركة , جفناه مغمضان و صدره ينبض نبضا ضعيفا يدل أنه مازال يتنفس . وقف عنده الطبيب و أصابعه تجس النبض , همس :
- كأنه ميت , هل تعرفه ؟
- لا , لم أره من قبل أبدا
- إذن ما شأن اسمك و عنوانك في جيبه ؟ أنت كابتن هيستنغز , أليس كذلك ؟
- بلى , و لكنني لا أدري . .
- عجبا ! أوراقه تثبت أنه كان خادما عند رجل يدعى إنغليز , موظف مدني مسرح , و أنت تعرفه , أليس كذلك ؟
- لقد رأيت خادم إنغليز من قبل لكني لا أستطيع أن أميز صينيا عن آخر , لابد أنه كان مع إنغليز في طريقه إلى الصين و بعد حصول الكارثة رجع هنا برسالة قد تكون خاصة بي , يجب أن أسمع الرسالة .. سألت الطبيب :
- هل هو في وعيه ؟ ألا يستطيع الكلام ؟ السيد إنغليز كان صديقي القديم و لعل هذا المسكين قد أحضر لي رسالة منه , إذ يعتقد أن السيد إنغليز قد اختفى عن ظهر سفين قبل عشرة أيام . .
- إنه واع لكن ربما لا يستطيع النطق , فقد دما كثيرا , أستطيع أن أعطيه حقنة منشطة لكننا عملنا كل ما بوسعنا
و حقنه الطبيب بإبرة تحت الجلد و بقيت عنده راجيا أن يتكلم كلمة واحدة أو إشارة ربما تكون هامة عندي , ولكن الدقائق مرت و لم يتحرك
و فجأة , خطرت ببالي فكرة مقلقة . .
ألم أكن قد وقعت في فخ ؟ فليكن هذا الرجل انتحل شخصية خادم إنغليز و أنه في الحقيقة جندي للأربعة الكبار , ألم أقرأ مرة أن كهنة في الصين يقدرون أن يتظاهروا بالموت ؟ أو أبعد من ذلك : لعل لي شانغ ين قد أمر جماعة من جنوده الذين يحبون أن يتظاهروا بذلك . . لا بد أن أحذر . .
في اللحظة هذه تحرك الرجل في سريره , فتح عينيه , همس كلاما و عينه علي , لم يقم بأي حركة تدل أنه عرفني , و لكني أدركت حالا أنه يريد أن يكلمني , وسواء كان صديقا أو عدوا , ينبغي أن أستمع إليه
انحنيت فوق السرير لكنني لم أفهم شيئا من صوته المتهدج , سمعت كلمة (( هاند )) و لم أفهمها , ثم سمعت كلمة أخرى (( لارغو )) , حدقت إليه بذهول و سألته :
- (( هاندلز لارغو )) ؟
طرف أجفانه بسرعة كأنه وافق , ثم أضاف كلمة إيطالية :
- (( كاروزا )) ؟
ثم تراجع فجأة . دفعني الطبيب جانبا , كان كل شيء قد انتهى , فالرجل قد مات !
خرجت مرة أخرى إلى الهواء و أنا في حيرة . . إذا كنت أذكر (( كاروزا )) بشكل جيد فمعناها باص . . ماذا وراء هذه الكلمات القليلة ؟ الرجل صيني و ليس إيطاليا فلماذا يتكلم الإيطالية ؟ فإن يكن هذا خادم إنغليز فلا بد أن يعرف الإنكليزية . . الأمر عجيب , يا ليت بوارو عندي لكي يحل هذه المشكلة !
و دخلت بعد أن فتحت الباب و صعدت ببطء إلى غرفتي , فوجدت على الطاولة رسالة , فتحتها فتحجرت في مكاني في الحال , كان بلاغا من شكرة المحامين , الرسالة تقول :
(( سيدي العزيز ,
حسب وصية موكلنا السيد هيركيول بوارو نرسل إليك هذه الرسالة المرفقة التي وصلتنا قبل اسبوع من وفاته و فيها أنه يجب علينا أن نرسلها إليك في تاريخ معين بعد وفاته . .
المخلص . . .))
قلبت الرسالة المرفقة مرة تلو الأخرى , حتما هي من بوارو , أنا أعرف كتابته , و بقلب مثقل و لهفة فتحتها . . .
(( صديقي العزيز المحب ,
لن أكون موجودا لدى استلامك هذه الرسالة لا تأسف علي و لكن اتبع أوامري :
عند استلامك هذه الرسالة عد إلى أمريكا الجنوبية فورا , لا تكن عنيدا , إنني لا أناشدك أن تنجز هذه الرحلة من أجل العاطفة , بل إنها ضرورية , جزء من خطة بوارو , و لعلك فهمت يا صديقي الذكي . .
. . فليسقط الأربعة الكبار !
هيركيول بوارو )) .
قرأت هذا البلاغ مرارا , شيء واحد كان واضحا : لقد أعد الرجل المذهل لكل وجه حتى أن موته لم يضرب تسلسل خطته : أنا العضو المنفذ وهو العقل المدبر , أعدائي سوف يحسبون أني أطعت تحذيرهم فلا ينشغلون بي , و أعود دون اشتباه و أدمرهم . .
وأرسلت برقية و حجزت على السفينة (( أنزونيا )) في طريقي إلى بيونس آيرس , و بعد أن غادرت السفينة مرفأها أحضر لي المضيف رسالة أخذها من رجل ضخم يلبس معطف فرو غادر السفينة قبل أن ترفع ألواح المعابر الخشبية , فتحتها . . كان فيها كلمتان :
أنت حكيم .
رقم {{4}}
و ضحكت في نفسي
البحر كان هادئا , واستمتعت بعشاء حسن , و رأيت – مثل سائر زملائي المسافرين – أن ألعب مباراة أو اثنتين في البريدج , ثم عدت ونمت كالقتيل , و هذا حالي كلما ركبت سفينة
و صحوت من إحساسي بأنني كنت أهتز مرارا , رأيت – و أنا مذهول – قبطانا يقف فوقي
- شكرا لله ! صحوت أخيرا ؟ هل تنام دائما في هذه الهيئة ؟
- ماذا في الأمر ؟ هل أصاب السفينة شيء ؟
- ظننت أنك تعرف . . إنها أوامر قيادة البحرية , مدمرة تنتظرك لتأخذك معها
- ماذا؟ في وسط المحيط ؟
- ليس هذا شأني , لقد أرسلوا إلى السفينة شابا يحل محلك , و قد أقسمنا جميعا على السرية . هلا نهضت و لبست ثيابك ؟
فعلت ما طلب مني و أنا عاجز عن كتمان عجبي
تم إنزال قارب و حملت على ظهر مدمرة , و استقبلوني بترحيب لكني لم أفهم شيئا , كانت أوامر القائد أن أنزل في بقعة ما على الساحل البلجيكي , هناك تنتهي معرفته و مسؤوليته
كل شيء كان كالحلم , لكن ما استقر في قلبي أن هذا لا بد أن يكون جزءا من خطة بوارو , ينبغي أن أسير كالأعمى واثقا من صديقي الذي مات !
هبطت في نقطة ما , كانت هناك سيارة تنتظرني , و في الحال عبرنا سهول فليميش المنبسطة , و نمت في تلك الليلة في فندق صغير في بروكسيل , و واصلنا المسير في اليوم التالي , و دخلنا الغابات و الجبال , و عرفت أننا على جبال الأردنيز . . و فجأة تذركت أن لبوارو أخا يعيش في منتجع , لكننا لم نذهب إليه
تركنا الطريق الرئيسي و عرجنا ناحية الهضاب في مكان ما منعزل حتى وصلنا إلى قرية صغيرة فيها دار منعزلة , وقفت السيارة أمام بابها الأخضر . .
نزلت من السيارة , كان على مدخل الباب عجوز ينحني لي , قال بالفرنسية :
- كابتن هيستنغز ؟ أرجوك اتبعني
و سار أمامنا عابرا القاعة , و فتح في نهايتها بابا كبيرا على مصراعيه , ووقف جانبا لكي يسمح لي بالدخول . .
طرفت عيناي قليلا لأن الغرفة كانت من جهة الغرب و كانت شمس الأصيل تخترق الغرفة , ثم فتحت عيني و رأيت رجلا يمد يده إلي . . كان ذلك الرجل . . آه ! مستحيل . . كيف ؟ لكن , نعم . . صحت : بوارو !
و لم أحاول التهرب من العناق الذي غمرني به
- نعم , نعم , ليس سهلا قتل بوارو . .
- ولكن , بوارو . . لماذا ؟
- الحرب يا صديقي خدعة , كل شيء الآن جاهز لانقلابنا الكبير !
- لماذا لم تخبرني ؟
- لا يا هيستنغز , لم أتمكن ؛ لأنك ما كان يمكن أن تمثل دورك في جنازتي عندئذ بالاتقان الذي سارت عليه الأمور
- لكن الذي كنت سأكشفه . .
- لقد رسمت خطة من أجلك, بعد الانفجار خطرت لي فكرة لامعة و ساعدني على تنفيذها ريدغوي الطيب فيها : أنا ميت و أنت ستعود إلى أمريكا الجنوبية , لكن هذا يا صديقي مالم تكن لتفعله , فكان علي في نهاية المسألة أن أدبر مسألة رسالة المحامي , لكن , على كل حال ها أنت هنا , ذاك هو الشيء العظيم , و الآن نحن نستلقي هنا بعيدين حتى تأتي خطة الانقلاب الكبير الأخير . . الإطاحة بالأربعة الكبار !